حينما أمسكت بلوحة المفاتيح في هاتفي الجوال لأكتب ذاكرتي حول أول رحلة لي بين ولايتي الرستاق وعبري مرورا بقرى أشهرها (خفدي) و(يقاء) و(سني) و(مُرِّي) و(الحيال) و(مسكن) وبين هذه القرى تتناثر قرى عديدة لا شك أنها باتت اليوم معلومة بعد أن تمَّتْ زفلتة الشارع المذكور ، أقول أنني حين عزمت على تدوين ذاكرة تلك الرحلة تحيرت في وضع العنوان المناسب لها ، فأجريت عليها الاسم الشائع اليوم وهو (طريق وادي بني غافر).
كانت الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر من يوم الخميس الموافق الثامن والعشرين من شهر شعبان ١٤٠٠ للهجرة الموافق ١٩٨٠/٧/١٢ م حين خطرت لي فكرة القيام بالرحلة عبر طريق بالنسبة لي مجهولا ، فلم يسبق لي أن وطئت قدماي تلك الناحية ولم تكن لديَّ سيارة دفع رباعي خاصة فاستأذنتُ سعادة الوالي أن يسمح بسيارة المكتب وكانت السيارة لاندروفر وأذكر أنها كانت قد تقدمت بها الخدمة .
في مقالي السابق ( كلمات أرادت أن تخرج ) نوهت قليلا إلى عدم وجود طرق توصل القرى ببعضها لكنني لم أفصل وفي هذا المقال ما قد ينقل الصورة للقارئ حقيقة ما أعنيه.
عند الساعة الثانية كنت على مقعد السيارة متوقعا وصولي إلى بلد العراقي بولاية عبري عند الساعة السابعة مساء فالطريق لا يزيد طوله على تسعين كيلومترا وخمس ساعات ستكون كافية قبل حلول الظلام.
انطلقت بعزم الشباب وحب الاستطلاع وثقتي بأن السيارة إن شاء الله لن تخذلني ظانا أنني في أضعف الحالات سأمشي في طريق ممهد وفق ما نسمع عن وجود معدات لشق الطرق .
ولمن لا يعرف الحدود الادارية بين ولايتي عبري والرستاق أوضح أن آخر قرية تابعة لولاية الرستاق من الجهة الغربية هي قرية (مُرٍّي).
أخذت أمشي فيما يسمى بالشارع بسرعة لا تزيد عن عشرين كيلو مترا في الساعة
وقد أصل للحظات إلى ثلاثين كيلو متر.
غربت الشمس عند قرية (سني) وما زال غصن في النصف الأول من مسافة الطريق ، وكما قد ذكرت في صدر هذه السطور كانت ليلة الثامن والعشرين من شهر شعبان ، وأخذ الليل يرخي سدوله على تلك الجبال ليزيد من وحشة النفس على قلق الفكر.
لقد كان خط الطريق لا يكاد يتميز عن الجبل كما لم تكن أكثر وضوحا عن مداخل القرى
وكانت الصخور أحيانا توقف السيارة كالفرامل ولم تكن هناك لوائح تشير إلى فروع القرى لذلك كنت أسير في مسار يؤدي بي إلى قريةٍ ، بعد أن أكون قد استغرقت أكثر من عشر دقائق للوصول إليها فأعود إلى الوراء
مستغرقا عشر دقائق أخرى ، وقد تكرر ذلك كثيرا بعد حلول الليل ، وما الذي سيدلني على القرية وليس فيها من مصباح إلا ما ندر في بعض البويتات المتوارية خلف نخيل القرية؟
لقد كاد اليأس يأخذ مني مأخذه لدرجة أنني حين لامست إطارات السيارة الطريق المزفلت عند بلدة النجيد من ناحية عبري أحسست بسعادة غامرة صرت فيها أصرخ لنفسي وأرقص كالهنود الحمر .
لقد وصلت بيتي عند الحادية عشرة ليلا بعد رحلة أقل ما توصف بأنها شاقة ، ولكن ماذا عن العودة ؟ تلك حكاية أخرى تعود لعدم الخبرة أولا
ثم لحلول الليل في رحلة القدوم الذي لم أستطع معها أن أضع ملامح لطريق العودة فقد كانت أضواء السيارة محصورة في خط السير والليل معتم للغاية ، لذلك حين تحركت صباح يوم السبت عائدا من عبري عند أول الصباح لم أتبين أيَّا من المعالم التي مررت عليها يوم الخميس كما أن الطريق بدا لي مختلفا ، فعقابه كانت أشد ارتفاعا وقسوة إلى أن نزلت على واد متدفق بالمياه قريب من إحدى القرى فوجدت شخصا سألته عن المكان فقال هذا هو وادي الحواسنة وسوف تخرج من ولاية الخابورة فعلمت حينها أنني انحرفت عن مساري و أنني لن أصل إلى المكتب في الرستاق إلا مع نهاية الدوام الرسمي.
تلكم الرحلة كانت نتائجها عليَّ وخيمةً فقد أصبت باَلامٍ في الصدر شديدةٍ عانيت منها أشهراً حتى أنني كنت أنزف دما من شدة السعال الذي لم ينفع معه علاج الأطباء ، إلا أنَّ شخصاً وصفني بدواء وأخبرني بكيفية تناوله وهو عسل النحل أتناوله وأنا مستلق في السرير لا أقوم بعدها إلى الصباح فداومت على العسل مدة طويلة وبكمية كبيرة فعادت اليَّ العافية بحمدالله تعالى .
*لم تكن كتابتي لهذا المقال لأهمية موضوعي الشخصي بقدر ما أردت أنْ أضع بين يدي القراء من الشباب المعاناة التي رزح العمانيون تحتها قبل السبعين والعبرة التي أردت أن يأخذها القارئ من هذه المقالة هي إنْ كان عبور مواطن لطريق في يومين أخذ منه ذلك المأخذ من الجهد والمشقة فكيف بالذي سيعبر ببلد وينقله من ظلام الجهل والفقر والتخلف إلى مصاف الدول المتقدمة ؟! لله ما أعظمه من قائد ، كم من صخرة حاولت أنْ توقفه عن وجهته. فدحرجها وكم من ليلة مظلمة كادت أن تخفي الأفق فجلاها ، وكم من عقبة كأداء قد جاوزها ، فأي كلمات تفيه حقه من الثناء والولاء والعرفان؟!
إنَّ لسان حالي وحال من شهد انتقال عمان من عهدٍ تَلَبَّسَهُ الجهلُ وقسوة المعيشة إلى حال النور واليسر يقول :
سعيتَ يا سيِّدي حتى بلغتَ مَدَىَ
الشعبُ فيهِ بدا من أسعد السعدا
قَابُوسَ ياربُّ إحفظه بعافيةٍ
وامدد له بِخَفِيِّ اللُّطفِ منكَ يَدا
حفظ اللهُ عمان شَعباً وقائداً وأدام عليها نعمةَ الأمنِ والرخاءِ والازدهار … اللهم آمين .
ما أروع ما تخطه يا عمي!!
شكرا جزيلا على الاهتمام