في أول يوم جلستُ فيه على كرسي نائب الوالي في ولاية الرستاق عام ١٩٧٩وضعت راحتي يدي على رأسي محدثا نفسي قائلا ماالذي دعاك لوظيفة كهذه؟! لم يكن ذلك عن ضعف بل استشعارا لثقل المسؤولية ، فقد كنت من اوائل الشباب الذين يلتحقون بسلك الولاة الحاملين لمؤهل دراسي ( شهادة ثانوية عامة) وكانت لدي خبرة إدارية ست سنوات إلاَّ أنَّ وظيفة الوالي ونائبه تحتاج من الحنكة أكثر من شهادة دراسية ، ومع ذلك كانت وزارة الداخلية يومها تطمح في الارتقاء بالمستوى الاداري وتنظيم الارشفة في مكاتب الولاة .
ولئن جاز لي توصيف وظيفة الوالي حال التحاقي بها ومدى استفادتي على المستوى الشخصي أقول إنَّ عملي في سلك الولاة لمدة نافت على الثلاثين عاما قد منحني شيئين كبيرين اولاهما التعرف على جغرافية بلادي المتنوعة بين السهل والجبل وما تتميزبه كل ولاية بالنظر الى ان مستوى التواصل بين القرى ومراكز الولايات لم يكن على النحو الذي نشهده اليوم فبعض القرى لم تكن بعد قد شقت اليها الطرق بما يعني احتفاظ كل قرية بنكهة حياتها الخاصة .
وثانيهما التعرف عن قرب على المجتمع العماني وكثير من الشخصيات العمانيةالتي لم اكن لأحظى بمعرفتها لولا عملي بذلكم السلك الهام الفاعل والمتفاعل مع محيطه.
وليس من المبالغة أن أشير الى أنه ما من وظيفة في تلك الحقبة تحتل مكانة وظيفة الوالي على الإطلاق مهما علت درجاتها المالية والهيكلية في السلم الوظيفي .
فحين يحل الوالي على الولاية تفتح له ذراعيها مرحبة به كأبٍ كبيرٍ دون النظر الى سنه الحقيقي وتُفتح له قلوبُ أبنائها وخصوصيتها التي قد لا يعرفها
غيره بما يحمله ذلك من عظم الأمانة والمسؤولية التي يتوجب على الوالي الشعور بثقلها.
إنك وانت الوالي في الولاية يُفتح لك سِفرها الذي إنْ كنت حصيفا واستطعتَ ان تقرأ وتفهم كل يوم سطرا فيه فتأكد انك ستصبح يوما ما موسوعة تحمل أسفار عدد من ولايات السلطنة وستعرف كم هي عظيمة تلك المهمة التي اضطلعت بها .
لقد شرفت بالعمل في عشر ولايات في اكثر من محافظة
التي كانت تسمى مناطق و رغم ما يظنه البعض من تشابه في التركيبة السكانية والانماط والعادات والتقاليد لم اجد ولاية تشبه أخرى ، ولذلك كنت أتمنى أن لا امكث في الولاية التي انا فيها مدة طويلة ليتاح لي التعرف على ولاية أخرى.
لقد كان التحاقي بالعمل في سلك الولاة في وقت كانت فيه مكاتب الولاة تدير كل شيء في الولاية وتقوم بدراسة احتياجاتها التنموية بل كان على الوالي أن يقوم بجولات استطلاعية في انحاء ولايته لا تقل عن مرتين في الشهر للنظر في احتياجات السكان من الطرق والمدارس والمراكز الصحية والخدمات الاجتماعية والزراعية ويرفع بذلك تقارير شهرية الى وزارة الداخلية التي تحيلها الى الجهات ذات الصلة.
كما كان لمكاتب الولاة الدور الكبير في تذليل الصعاب التي اعترضت تنفيذ مشاريع الطرق والمدارس والمستشفيات ولن اكون مبالغا إن قلتُ ان التنمية التي حظيت بها الولايات بنيت على مرئيات اصحاب السعادة الولاة ، وذلك هو ما عزز مكانة الوالي لدى المجتمع العماني فقد شعر المواطن العماني بالدور الكبير والنزيه الذي يقوم به الوالي في ايصال احتياجاته الى متخذي القرار وأنَّ راي الوالي هو المعمول به فكان ذلك التلاحم بين الولاة والمواطنين في ولاياتهم الامر الذي رسخ مكانة الوالي لدى الحكومة بصفته الاعتبارية وبما حققه من رصيد على مدى اكثر من ثلاثين عاما من جهود مساندة للعديد من جهات الاختصاص ، قبل ان تنتقل
مكاتب الولاة الى مرحلة اخرى لتتوائم مع نصوص النظام الأساسي للدولة ومع تمايز اختصاصات كل جهة.
ولئن كان دور الوالي في ولايته قد تطور كثيرا فإنه قد بقي الشخص الاول في الولاية مكانة واجلالا باعتبار الموروث التاريخي الذي كان عليه ولما يمثله في العصر الحاضر من رمز لسيادة الدولة وبما قدمه من خدمة في هذا العهد المبارك.
إنني اشعر بالامتنان العظيم لاصحاب السعادة الولاة الذين اتيح لي العمل معهم من قريب او بعيد فقد كانوا لي الاساتذة وقد استفدت من خبرتهم فرحم الله من قد انتقل الى جوار ربه وبارك الله في حياة الكثيرين منهم فاليهم ازجي اجمل التحايا والتقدير.
حين ودعت وظيفتي من وزارة الداخلية كانت لدي مشاعر مختلطة بين شعور بالراحة والتخفف من ثقل المسؤولية وبين أنَّ حبل تواصلي مع ذلك السلك الذي اوصلني الى النضج الفكري حسبما أشعر قد انقطع ، لكنني اعترف هنا ان اليوم الذي ودعت فيه وزارة الداخلية قد شعرت أن سني قد عاد الى منتصف العشرينات فقد استعدت حريتي المسلوبة
وراحة قلبي المنهوبة ، لم اعد ابلغ المنسق انني في دورة المياه إنْ احد سال عني او جاء زائر ، كما انني لم اعد افكر في الليل في حل مشكلة مستعصية
إنني شاكر لله سبحانه ان وفقني لخدمة وطني وخرجت من الوظيفة مكرما من الحكومة الرشيدة ومغمورا بالفضل من صاحب الفضل مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله وعافاه وامد في عمره ، وحفظ الله عمان آمنة مزدهرة وشعبها الابي الكريم في رخاء واطمئنان.
والحمد لله رب العالمين.
غصن بن هلال بن محمد العبري
أحدث التعليقات