حينما تم تعييني في نيابة دماء بولاية دماء والطائيين في عالم ١٩٩١م من القرن الماضي منقولا من ولاية بركاء وجدت نفسي فجأة في عالم آخر يختلف كثيرا عما ألفته من الحياة المدنية فلا طرق معبدة ولا كهرباء ولا وسائل اتصال ناهيك عن محدودية العمل المكتبي الذي لو أعطيته ساعة من الدوام لانجزته بالتمام والكمال وذلك يعني أن ثلاثا وعشرين ساعة سوف أقضيها فراغا قاتلا إن لم أفكر كيف استغله.
لقد عدت إلى استخدام معلبات الفواكه ، الخوخ ، والانناس ، والكمثرى ، بعد أن اكتشفت أن الفواكه الطازجة لا يمكن الاحتفاظ بها لأكثر من يومين.
وفي مجال الطبخ عدت لمعلبات التونة واللحم المشرح والعوال ، حياة في منتهى البساطة تمتعت خلالها برؤية النجوم والبدر حال كماله وهو يطل علينا بين منحنيات الجبال وموسيقى سوط مطاريح (ميازيب) الأمطار من البيوت التى تطرد عنا النوم لجمال صوتها ، وخرير الماء المنسل و المتسلسل بين صخور الوادي على الحان شتى الطيور التي تنسجم مع تلكم النخيل المتعانقة ملتحفة بالجبال الشاهقة.
ولعل عدم وصول الخدمات جعل الطبيعة هنالك تستمتع بآخر موقع لها قبل أن تدب فيها الحركة المتسارعة
كانت حركة السيارات محدودة
وكانت إبراء هي سوق قرى نيابة دماء إلا من كانت له حاجة في مركز الولاية بمحلاح
فقلما تسمع حنين سيارة في النهار فما بالك بالليل ، ولان التيار الكهربائي لم يكن بعد قد وصل .. مع أن العمل جاري في التوصيل لكافة أنحاء الولاية بأمر سام من جلالة السلطان المعظم .. فإنه لا يوجد ارسال تلفزيوني ولذلك عند الساعة التاسعة من الليل و بعد إطفاء مولد الكهرباء الخاص (بسعود بن عبدالله الاغبري ) يخيم السكون المطبق على تلكم القرية ، واذكر أنني قد وضعت ساعة يدي على سور سطح المنزل وسمعتها من على بعد مترين .
بدأت أفكر كيف سأقضي جل وقت النهار وجزء من الليل فعلى الرغم من سحر وجمال الطبيعة لكنها هي الأخرى لا تستغرق ساعة وهل سأظل طوال وقتي كالمجنون او السكران اتنقل بسيارتي ، ذلك لا يليق بشخص مسؤول
فكان لا بد أن ابحث سريعا عن شاغل يشغلني الى أن وقع في يدي كتاب كشف الأسرار المخفية للعلامة عمر بن مسعود المنذري في عدد من الأجزاء ربما تربو على سبعةأجزاء ،
كتاب اتعب كاتبه كما قدر لي انا الاخر أن اتعب في قراءته.
قلت في نفسي لقد وجدت ضالتي فهنا يتوفر الفراغ والسكون وكلاهما ضروري لاستيعاب وفهم ذلكم الكتاب العصي على أمثالي ممن قد تعودوا على قراءة الجرائد والمجلات فلم لا اجرب حظي؟ فقد يفتح الله علي من أسراره ولو لكتابة الحروز ، *المهنة المزدهرة التي تدر دخلا يزيد على مرتب مدرس في الجامعة*.
شرعت في قص ذلك الكتاب قراءة وتلخيصا بدء من معرفة *البروج* واوقات *السعود* و*النحوس* إلى كتابة *الاوفاق* والبحث عن *إسم الله الأعظم* وحفظ *العزائم* استحضار الاعوان من الجن.
إلى أن جاء اليوم الذي قدر لي فيه التوقف عن قراءة ذلك الكتاب بسبب موقف طريف هو التي جعلته عنوانا لهذا المقال.
في مكتب نائب الوالي عدد اثنين من موظفي اللاسلكي *جهاز اتصال برقي* يربط مكاتب الولاة بديوان عام وزارة الداخلية ويربطها ببعضها وقد لاحظت غياب أحدهما عن مباشرة العمل لمدة أسبوع فاعتقدت أنه ممنوح إجازة او أنه تفاهم مع زميله ليغطي عنه المناوبة فقد كان يداوم كل منهما فترة أما الصباح أو المساء.
سألت الموظفين من الكتبة عن سبب غياب المخابر *علي*
قالوا إنه مريض قلت هل ذهب للطبيب؟ قالوا إن مرضه ليس مما يداوى بالطب ، فدخلت معهم في جدل حول أنه ما من مرض ليس له علاج فقالوا : الافضل ان تزوره بنفسك.
إنطلقنا بالسيارة ومعي عقيد العسكر وسائق سيارة المكتب نحو قرية الحصن تلك القرية المتحصنة كإسمها في وسط وادي دماء والتي تغرب الشمس عنها عند الساعة الرابعة عصرا ،
و التي لو تحركت نملة لسمعت دبيبها لا يقطع ذلك الهدوء إلا صوت عصى رجل مسن.
اوقفنا السيارة على بعد من منزل الرجل القابع في مزارع القرية الذي يكتنفه عدد من أشجار الأمباء *مانجو* ولا تكاد تصله اشعة الشمس.
وصلنا المنزل ودخلنا المجلس بعد طرق الباب فإذا بصاحبنا طريح الفراش لا يقوى على النهوض على قدميه
كيف حالك يا *علي* قال كما ترى ياشيخ
سألته ما الذي أصابك قال ( كنت مستلقيا على فراشي هذا كما تراه الان في إحدى الليالي في حدود الساعة الحادية عشر من الليل وكان في يدي كتاب شمس المعارف الكبرى وكنت أقرأ فيه كما كنت دائما وبينما انا منهمك في القراءة دخل علي كائن عظيم الخلقة ولشدة خوفي قمت من فراشي وكان تفق الكند معلقا في الوتد كما تراه الان.
فما إن مسكت التفق حتى استلمني ذلك الكائن وأخذ يرمي بجثتي يمينا وشمالا ويضرب بي على الجدار وانا اصرخ واهلي يسمعون صراخي ولا يستطيعون فتح باب المجلس إلى أن تركني بين الحياة والموت ، ومنذ ذلك اليوم وحالي كما ترى ياشيخ من الوهن والضعف ، وفي حين كان هو يسرد حكايته كان *غصن* يستعيد ذاكرة ليالي قضاها في قراءة كشف الأسرار المخفية في جو مماثل من الهدوء والسكينة فماذا لو صادف الحظ السيء وزاره ذلك العفريت.
ودعنا الرجل عائدين الى المكتب بفكر مختلف حول قراءة كتاب كشف الأسرار المخفية ، فالسكون وصفاء الذهن والتركيز في قراءة الروحانيات يمكن أن يجلب عفاريت وليس عفريتا واحدا كما حدث عند صاحبنا وقد لا أكون مهيئا لتلقي هكذا صدمات فكرية ناهيك عن أنني شعرت بخيبة أمل إزاء الوقت الذي أنفقته في قراءته دون فائدة ملموسة.
فاستعضت عنه بكتاب فتح الله عليَّ منه كنزا معرفيا كبيرا ما زلت أنهل منه حتى اليوم.
فقد حفظت ألفية ابن مالك كاملة *الف بيت في قواعدالنحو* وقرأت شرحها
لابن عقيل أكثر من مرة وتلك نعمة أشكر الله عليها.
وأخيرا إن كان للأمكنة والأزمنة من افضال على الإنسان فإنني مدين لوادي دماء بما منحني من الاطمئنان النفسي والصفاء الوجداني والمعرفة الثمينة ولاهله الذين منحوني إحسانهم وشملوني بمحبتهم حتى لا أكاد أنسى تلك الأيام الفارقة في حياتي.
فلم يكن يخطر ببالي حين دخلت ذلك الوادي كئيبا وانا اردد أبياتا من الشعر
وادي القفيفة حيانا فحيوه
واستنطقوه بما قد قاله فوه
قد قال لي انه لم يأت نحو هنا
إلا الذي للعلا الأخلاق تسموه
يا حبذا من مقال قاله جبل
لو قاله بطل للسجن ساقوه
هذي البلاد بها الأحجار ناطقة
بالحق في قومها إن هم أضاعوه
لم أكن أتوقع أن أجد في تلك النيابة من الفائدة العلمية ما لم أستطع تحقيقه في غيرها من الولايات .
وبعد مضي اربع سنوات امضيتها في تلك النيابة تغيرت أمور كثيرة بدخول الكهرباء وتلاشت كثير من مظاهر الحياة الهادئة تلك فقد دخلت المكيفات واطباق الاستقبال التلفزيوني وأخيرا تم رصف الطريق .
لكن ذلك كله لم يمنع من تدفق شعوري بالاسف من قرار نقلي فقلت :
يقولون لي تنسى فقلت محال
اينسى نعيم لم يشبه وبال
اتنسى سويعات اتنسى دقائق
اتنسى ثوان كان فيها خيال.
اتنسى نسيمات اتت باريجها
فماس لها غصن ورقَّ هلالُ
أعوذ بك اللهم أن ينسى عهدهم
وهل يك مني إنه لضلال
قصيدة طويلة ليس هنا مجال طرحها.
ارجو ان تكون المقالة لامست شغاف المطلعين عليها.
والحمد لله رب العالمين
غصن بن هلال العبري
١٩ /١ / ٢٠١٩م
أحدث التعليقات