الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وبعد :
كثيرا ما تأملت كيف انقسمت الامة الى مذاهب شتى وهي الامة الاحوج الى الوحدة قبل ظهور الأسلام والتي عانت الويلات من انقساماتها وتبعيتها بين دولتي الرومان والفرس والتي كادت ان تنال ما تبحث عنه مع قيام اول دولة إسلامية حقيقية في عهد سيدنا الفاروق عمر ابن الخطاب .
و من واقع تفكيري لا مما سمعت وقرأت اجدني أسجل بعضا مما مرَّت عليَّ من افكار ليست بالضرورة تمثل شيئا يهم المطلع بقدر ما هي محاولة مني لفهم ما يدور في الحاضر تأسيسا على الماضي ، ذلك انني كلما قرات شيئا اكاد أن اسلِّمَ بصحته أجد بعد فترة أنَّ الامر ليس كما كنت قد فهمته اوانه يتناقض مع معلومة جديدة أخرى جاءت بعد التي قبلها وهكذا سلسلة لا تكاد تنتهي تبدأ كأنها الماء لتنتهي بالسراب الذي لا يروي ظمأً.
فمثلا يقال ان اختلاف العلماء رحمة مع أنَّ العلماء حين اختلفوا خلَّفوا لنا مذاهب وفرق وأقوال ليس أقلها الحديث الذي يرفعه اتباع كل مذهب ( ستنقسم أمتي من بعدي الى بضعة وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة ) ليصنِّفوا من أنفسهم أنهم الفرقةُ الناجية ، فأيُّ رحمة تلك التي تنتج الهلاك والتعصب ؟! وأي حديث هذا الذي يؤصِّل الخلاف بين المسلمين ويقَعِّده ليصبح الخلاف هو العقيدة السائدة باعتباره تصديق لنبوئة المصطفى صلى الله عليه وسلم وليظل الاتفاق بين ابناء الامة هو الاستثناء .
فكان عليَّ اولا أن أقف عند هاتين النقطتين رحمة خلاف العلماء التي انتجت من المذاهب والفرق ماهي معروفة والحديث عن انقسام الامة لعلِّي أجد عاملا مشتركا بينهما يمكن أن يكون في مصلحة الامة فلم أجد ظالتي.
وقلت كيف امكن لعلماء المسلمين ان يقنعوا انفسهم قبل أن يقنعوا امثالي من البسطاء بتوافق الحالتين وو جودهما في وعاء واحد؟!
ثم قيل لي أن المشكلة ليست في المذاهب بل في السياسة التي ركبت على ظهر المذاهب فصارت تغذي الخلافات وتوقد نارها ، فاردتُ أن أسلِّم الامر بذلك الا ان عقلي رفض تلك المقولة ، لماذا ؟ لأن المذهب أو الطريقة او القصد هي مجموعة من الآراء الفكرية او العقدية المترابطة في نسق متجانس. فهو إذا صيغة فكرية فردية لاننا حين نتحدث عن مذهب معين ننسبه الى إمام او عالم من العلماء قد تأسس على يديه وهو الذي بلوره وقدَّمه للعامَّة من مريديه فاستحسنوه وأخذوا به ولم يفرضه عليهم فرضا بدليل وجود أكثر من شخصية علمية في وقت واحد وفي زوايا تكاد تكون في مكان وأحد ليتنقل المريدون بين زاوية وأخرى مما يعني وجود مساحة لا باس بها من حرية الحركة لصياغة فكر متزن.
امَّا حديث الانقسام فلم يثبت عن اي من أيمة المذاهب انه بحثه أو تطرق إليه في عصور نشأة المذاهب ، فلا معنى أن يتحمل أيمة تلك المذاهب نتائج الفرقة في الامة وهم إنما اجتهدوا في إخراج ما فهموه من النصوص والاحاديث وذلك حقهم كحق غيرهم في التفكر والتدبر ؟!
والسؤآل الذي قد يطرحه عليَّ القارئ هنا ، إذا كنت قد بدأت بقولك انك لا ترى رحمة في اختلاف العلماء لانتاجهم قواعدا للفتن وهنا تبرئهم مما وقع فماذا تريد أن تقول ؟ أقول ببساطة المشكلة في العقل العربي وعدم قدرته على التعامل مع الاتجهات الفكرية المتعددة فلا يريد أن يكلف نفسه صداع قدح التصادم بين فكر وآخر لذلك يأخذ بكل ما يتلقاه باعتباره مسلمات ويرى فيما يتبنى من فكر أنها كل الحقيقة التي لا مجال لنقضها، إنها في الإرث البغيض الذي ورثته العرب من جاهليتها الموسوم بالعصبية للراي والقبيلة والتي لم تستطع التخلي عنه.
وأما السياسة فقد وجدت في أتباع كل مذهب الرغبة الجامحة في توظيف تلكم الأفكار لخدمتها أملا في بسطها على اكبر مساحة من الارض فاستجابة لهم ، ومع تعدد النظم السياسية اخذت الفرق تتمايز بين نظام وآخر فالمذاهب إذا هي التي ركبت السياسة وليس العكس .
وامَّا حجتي في ان المشكلة في العقل العربي فهي انَّه يمكنني فهم أن أجلس أمام معلم في المراحل الاولى من حياتي وامام محاضر في علوم يتطلب إثبات حصولي عليها واجتيازها من جهة متخصصة رسمية معترف بها لكن ما لا افهمه ان احجر عقلي واحجمه بحرصي على ان أظل تحت ظل فلان او فلانا او ان اكون اسير فكر بعينه في حين أنه يمكنني وانا في موقعي ان أحصل على أضعاف المعلومات ومن مصادر عديدة ولمفكرين وعلماء تشكل إضافة جديدة في مخزوني الثقافي والعلمي ، فما الذي يجعلني لا اكاد اقر إلاَّ حرصي على ان اظهر حبي وولائي وتقديري لحامل ذلك الفكرا مما يعني تمكنه من عقلي وفكري وتلك هي نفس الحالة التي نشأت عليها المذاهب وإن تكن بصورة مصغرة فبينما كان يمكن لتلامذة الايمة ان يتنقلوا بين إمام وآخر فان الفرد اليوم يمكنه بالوسائل المتوفرة ان يتنقل بين فكر وآخر ولكن لأن الحالة الموروثة متأصلة في الانسان العربي و متلبسة بفكرة الفرقة الناجية فان اتباع كل فرقة تهوى كالفراش المتتبع للاضواء الى نحو من تعتقد انه سيكون المنقذ لها وهي لا تدري أنه قد يكون سببا للوصول بها الى ما تخشاه.
إن فكرة الانقسام قد اخذت من مقدرات الامة العربية وطاقاتها ليس بما يكفي لإعاقة الامة عن تقدمها فحسب بل في تعطيل الدور المنوط بها المنصوص عليه في محكم التنزيل ( وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ومع أنني لست من علماء الحديث لاثبت صحته أو أنفيها ولا اريد ان ينظر اليَّ بأنني ارد حديثا يعزى انه ورد على لسان رسول صلى الله عليه وسلم ولكنني أستغرب من توظيف حديث الانقسام الذي قد يكون جاء على سبيل الخشية على ألامَّة فيصبح مبدأً في علاقة الامة ببعضها ، ومع ذلك فانه يمكن تخريج الحديث على ان الفرقة الناجية إنْ صح الحديث ستكون الفرقة التي تاخذ على عاتقها مزج فقه جميع المذاهب وقرائتها وتمحيصها وتخليصها مما يغذي الخلاف بين المسلمين والخروج منها بالاصلح مما يقدم الامة الاسلامية الى العالم بالامة الوسط المؤهلة للشهادة على الناس ، والشهادة هنا تعني الحجة بمعنى ان تقدم للعالم الحلول المعقولة والمقبولة للمشكلات التي تعترضه ، تلك هي الشهادة التي ستؤديها على الناس وذلك لا يتحقق من أمَّةٍ ضعيفة لا تسهم في حركة العالم إلا بالتهديد والقتل إن هي تمكنت على الامم الاخرى من واقع ماتسمعه تلك الامم من على المنابر ( اللهم عليك بالنصارى واليهود ومن شايعهم ، اللهم صب عليهم صوت عذاب وافعل بهم كما فعلت بثمود وعاد وفرعون ذي الاوتاد الذين طغوا في البلاد ، اللهم بددهم بددا ولا تبق منهم على الارض احدا ) وإنما بالتفاعل الإيجابي مع حركة الكون تسهم في نموه وتقدمه وتعمل على مساعدته في إصلاح مجتمعاته اقتصاديا واجتماعيا وامنيا وبيئيا وحين تتمكن من ملامسة حياتهم ستكون الدعوة والتبليغ من خلال السلوك بل إن سلوك المسلمين بين بعضهم يكفي لأن يقنع الامم الاخرى بصواب منهجيتهم أو العكس كما هو حاصل اليوم .
واخيرا اتمنى على من يؤرقهم حال أمتهم المتردي من المسلمين عامة والعرب خاصة أن يقفوا وقفة مراجعة وأن يعلموا أن مقولة لا يصلح حال الامة إلا بما صلح به اولها تعني نشر السلام والمحبة والعدل والاستقامة في السلوك بالتي هي أحسن وبتطبيق مبدأ القدوة بالانتقال من الافراد الى الامة فلا يكفي ان يكون في امة الاسلام عدد من المفكرين يتنقلون بين دولة وأخرى لنقل حقيقة الاسلام فتلك رسالة انتهى مفعولها فالعالم لا يريد معرفة لانه قد قرأ وعرف بل ينتظر تطبيقا لإسلام لا يحمل مذاهبا بل دينا قيما ، إسلاما يكون فيه القرآن دستورا والسنة المطهرة لائحة واضعين خطا تحت عبارة المطهرة وان يكون عنوان الامة (وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين ) وان تعلن الامة فك الارتباط مع كل المذاهب دون استثناء فمن أسس المذاهب رجال وأنتم أيها العلماء العاملون والمفكرون المخلصون رجال ولن ينقصكم فهم ما فهموه من النصوص القرآنية مع ما يتوفر لكم من وسائل حديثة وما ظهرت من علوم ونظريات كونية جديدة تعينكم على تقديم الإسلام في صورته الحقيقية باعتباره خاتمة الرسلات السماوية.
والحمد لله حمد الشاكرين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ومن تبعه باحسان الى يوم الدين.
أحدث التعليقات