العبارات الفارغة كلمة تتردد في أذهاني منذ الطفولة حين لم أكن التفت كثيرا الى معناها لقلة حاجتي اليها ولأنني ربما لم أصل الى مرحلة الاحتياج الحقيقي لمعرفة مكنوناتها بل وحتى الى الوصول الى الوصف الدقيق لها ، وحينما كبرت لمرحلة ما بعد الطفولة في اوائل الصبا عرفت كلمة أخرى هي الكيلة الفارغة او ما تسمى بالصفرة او الفشقة وهي وعاء الطلقة النارية بعد إطلاقها .
حاولت الربط بين عبارتي كلام فارغ وطلقة فارغة والتي تجمع بينهما صفة الفراغ فلم اتوصل في تلك المرحلة العمرية من فهم الاولى فيما كان فهم الثانية سهلا لإمكانية إثباته على أرض الواقع فقد رايت امامي طلقة نارية مملوئة بالبارود مسدودة بالرصاص وبعد اطلاقها أصبحت فارغة إلا أن ذلگ لم يگن ليعطي الدلالة الدقيقة لمعنى كلام فارغ إلى ان بدات الجيوش الحديثة تستخدم أنواعا معينة من الطلقات النارية الخالية من الرصاص بقصد بث الذعر من غير إصابة جسدية ، هنالك وضحت الصورة للصفة التي أطلقها الاباء والاجداد على بعض الالفاض في حالات مخصوصة مثلها مثل الطلقات الفارغة تلك التي لا تكون أحيانا يصدقها واقع الحال الذي تقال فيه مع أن شكلها الحرفي واللغوي هو نفسه .
فهل يمكننا أن نطرح أمثلة لبعض الكلمات التي يمكن ان تكون فارغة حينا و مملوئة أحيانا ؟
في الحقيقة كل كلمة يمكن ان تصدق عليها الصفتان في حالة مطابقة الواقع او عدم مطابقته ، إلا ان بعض الكلمات يكون الفرق فيها بين المصادقة وعدمها بون شاسع وأثر بالغ ، بعضه جد نافع و الآخر سم ناقع .
وحتى تتضح الصورة أكثر دعونا نضع بعض الكلمات بين هلالين من مثل
( تهديد )( أزمة) (خيانة) قبيحة
( إنتماء) (فداء) (أمن) محبوبة
تلاحظون أننا اخترنا ست كلمات كأنموذج وحددناهابعبارتين ايجابية وسلبية باعتبارها كلمات مملوئة بمعانيها فلنأخذ أولا الكلمات السلبية ونفرغها من معانيها, سنجد انه لا تهديد ولا ازمة ولا خيانة فتلك العبارات بعدم مصادقتها للواقع تعد نعمة عظيمة وإن كان إطلاقها وحده يكفي لاثارة الذعر ، وفيما لو اخذنا الكلمات الايجابية وتم تفريغها سنجد أنه لا انتماء ولا فداء ولا أمن مع انه يفترض ان يكون واقع الحال مطابقا لها باعتبار وجوده ضرورة للناس وللحياةعامة كما هو حال الطلقة الحقيقية التي بها يتم الذود والمدافعة .
إن اعظم خطر يتهدد الكيانات الان هو الفراغ أو تفريغ الاشياء من مدلولاتها واوزانها الحقيقية مما يؤدي الى تظليل صناع القرار لينتهي بهم الأمر الى اوضاع لا يحسدون عليها وربما اتخاذ قرارات خاطئة مبنية على أشياء لا وجود لها او أنها في حال يختلف تماما عما يرمون اليه من أهداف كمثل إعادة الأمل وغيره من العبارات التي لا تمت بصلة في ارض الواقع . ومن مثل ذلك حين ينقل الى صانع القرار ان هناك ازمة اقتصادية حادة تهدد البلاد مما يستدعي إجراآت تقشفية من باب فرض ضرايب ورسوم اكبر ورفع الدعم عن بعض السلع لترتفع من جراء ذلك الاعباء المعيشية في حين ربما لا تكون هناك ازمة حقيقية فذلك من شانه تعكير الصفو العام يؤدي الى خلخلة في الاستقرار الاجتماعي .
وفي الجانب الآخر حين يعتمد صانعوا القرار على ما يسمعونه في الشارع من قبيل الولاء والعرفان والاستعداد للتضحية والفداء ليجدوا أن ذلك ليس إلا من باب الهتاف الفارغ من المضمون بدليل عدم تقبل قراراتهم التي ياملون منها إصلاح مسار معين في العمل الوطني او فتح منفذ لعلاقات جديدة او حتى الرغبة في استثمار معين وذلك ما يؤدي الى شرخ في العلاقة التي قد تنتهي بازمة ثقة وكل ذلك مرده تفريغ الدلالات من قوالبها
فلا ينبغي مثلا ان يقول الركاب لربان السفينة إننا نثق بك وبقدراتك فامخر بنا عباب البحر ثم لما ان تهب العاصفة وترتفع الامواج تتعالى صيحاتهم متجهين نحو الربان باللوم والتقريع كما ان من حق الركاب الذين اطمئنوا لخبرته وقدرته ان يكون ربان سفينتهم مستشرفا للمستقبل واضعا في حسبانه سلامة السفينة في كل الحالات فلا يفاجئهم في وسط المعمعة انه كان في السفينة خرقا لم يتمكن من اصلاحه وانه فوجئ بالعاصفة .
وهكذا رأينا من هذا السرد البسيط كيف أنه من المهم وضع الامور بقوالبها وثقلها الحقيقي وان الصدق والشفافية والاستعداد لفهم حقيقة الأشياء يؤدي الى سلامة الاقوال والافعال وأن تلك مسؤولية مشتركة بين جانبي طرف المعادلة ركاب السفينة وربانها ليصل الجميع الى الشاطئ بسلام وأمان.
أحدث التعليقات