مثل عماني جاء ليمثل واقعة خلدها الادب الشعبي فصار يضرب لكل واقعة مشابهة، وسببه ان أحد ابناء منح ذهب الى سوق نزوى ليشتري مجموعة من البهارات ومنها الجلجلان، فلما عرف التاجر ان زبونه من منح قال له اتاخذ الجلجلان من سوق نزوى بالكياس * وفي منح مزارع الجلجلان بالحمولة* أجاب الزبون بعبارة (جلجلان منح ما يبزر) اي انه لا يظهر النكهة المطلوبة في الطعام، فصار ذلك القول يضرب لمن يتوفر الشيء بالقرب منه ثم يذهب للبحث عن مثله من بعيد.
فإذا ما نظرنا لواقع حياتنا اليوم نجد أن ذلك المثل ينطبق على أكثر سلوكياتنا بقصد او بغير قصد .
وأذكر حكاية تصلح كمثال ومقدمة لما أريد بسطه من قول .
أحد الاشخاص اراد أن يشتري جحال من سوق عبري وكانت قيمة كل جحلة نصف قرش * وكان محتاجا لجحلتين بقيمة قرش واحد وفيما هو يهم باتمام عملية الشراء إذا بجاره يقول له أتشتري جحلتين بقرش وفي الدريز يباعن ثلاث بقرش ؟! ، وكانت النتيجة أن عدل صاحبنا عن شراء الجحلتين ، ولم يفكر في تلك اللحظة أن الدريز تبعد عن عبري اكثر من عشرين كيلومتر وانه إن اراد الذهاب الى هناك يحتاج الى وسيلة نقل (حمار) وان الحمار سيحتاج الى إطعام وان الزمن الذي سيستغرقه ذهابا وأيابا أكثر مما يستوعبه دوام حكومة هذا العصر من ساعات وأنه هو نفسه سيتعرض للجوع والعطش إن لم يحل ضيفا على أحد كرماء تلك البلدة ، وأن بضاعته التي سيشتريها قد يظهر بها بعض العيوب من مثل الشقوق وغيرها التي ستكلفه مشقة
إن قرر إعادتها او يقبل بها على عيوبها.
وهكذا تتضح صحة المثل وانطباقه على كل من يقوم بشراء سلعة أيا كان نوعها محمولة او غير محمولة ظاهرة او غير ظاهرة .
فمن يذهب مثلا للعلاج في الخارج هكذا دون إستشارة المؤسسات الصحية في داخل البلاد ليقال له ان مرضك كذا نوعه وكذا هو علاجه وحينما يعود يجد انه كان يستطيع نيل الخدمة مجانا وبجودة لا تقل عما وجدها في الخارج .فمثل هذه الحالة ما ذا يقال عنها غير المثل العماني ( جلجلان منح ما يبزر ) ذلك على افترض ان العلاج اعطى فائدته المرجوة وانه لا يحتاج كثيرا من المراجعة لاتمام العلاج فماذا عن الحالة التي تتطلب متابعة ، او ماذا عن الحالات التي تصاب بانتكاسات حادة والتي لا يفهم تاريخها غير الطبيب الذي أشرف على علاجها أول مرة.
ومثل ذلك من يذهب لشراء مواد متوفرة داخل السلطنة والفرق في السعر غير كبير ، ثم يتفاجأ إما بتغير النوع او الكم فيضطر إما للذهاب مرات عديدة لاستكمال النواقص او الرضوخ لشراء النوع المتوفر حتى لو لم يتطابق مع الذي جلبه من الخارج ، متناسيا التكاليف الغير منظورة من مثل استهلاك السيارة وقيمة الوقود والاقامة والتغذية بنفس حالة صاحب الجحال الذي تبسطنا في سرد حكايته بين عبري والدريز.
ولئن كنا قد ضربنا مثلين لمن يذهب لشراء السلع من الخارج فكم هي الامثال التي نحتاجها لبيان من يقطع ما يزيد على اربعين كيلو متر ذهابا وايابا لشراء مواد غذائية لا تزيد قيمتها عن خمسين ريال والتي تتواجد في كثير من السوبر ماركات في الاحياء السكنية القريبة غير مبالين بالازدحام المروري واستلاك الوقود وزيادة الانبعاثات الحرارية والزمن الذي يتغافل كثير من الناس عن قيمته في حياتهم والذي يمكن ان يقضى في زيادة انتاج مادي او فكري بدلا من التاوه من شدة حرارة الطقس وهم في طريقهم الى المجمعات التجارية .
إنني اتمنى على كل مواطن ومقيم ان يعيد النظر كل باسلوبه في الاستفادة القصوى من الموارد المتوفرة وعدم الهدر لكثير منها دونما قصد ، بسبب غياب التخطيط واللامبالاة في التفيذ.
مثال ذلك ان تخرح من البيت خمس سيارات كلها للنزهة والتسوق وكان يمكن الخروج في سيارتين والادهى والأمر ان يقال عند الساعة العاشرة من الليل نسينا ان نحضر للمطبخ كذا وكذا … هكذا بكل بساطة مع ان ذلكم التسوق قد استهلك اكثر من قيمة البضاعة المنسي شراؤها.
إننا نحتاج اليوم للدعاية الاعلامية التي تحد من الانفاق والاسراف اكثر مما نحتاجه من ترويج للسلع ، لقد تمادينا كثيرا على مدى أعوام مضت في الاستغراق في المدنية حتى باتت تشكل جزء من شخصيتنا واخشى ان نصبح مثل نبتة (الصنعيدة) التي تتميز بنضارتها وخضرتها متى توفرت لها الضروف المثالية لكنها سرعان ما تذبل وتموت في اقصر زمن يمكن تخيله ، وفيما عرف عن العمانيين انهم كالنخلة راسخة شامخة لا تتأثر كثيرا بالضروف المحيطة كونهم لا يميلون الى الترف تحسبا لتغيرات احوال الزمن ( إحفظ قرشك الابيض ليومك الاسود ) ( مد ذراعك بعرض ثوبك ) ما احوج شباب اليوم أن يعملوا بهذه الامثلة بدلا من التقاطر ليلة العيد على محلات بيع الزهور حتى انهم قد تسببوا في كثير من الاحتقانات المرورية لشراء وريدات اقل قيمة الواحدة منها ريالا واحدا فهل هذا هو الشباب الذي يعول عليه لبناء الوطن ورفع رايته في سماء المجد خفاقة؟!
حفظ الله عمان وشعبها وقائدها في أمن ورخاء وازدهار.
ملاحظة
* الكياس وحدة وزن تعادل ما يقرب ١٥٠ جرام.
* الحمولة وحدة كيل ما تعادل ١٠٠ كيلوحرام.
أحدث التعليقات