ما إن فاضت روح معالي السيد بدر بن سعود بن حارب البوسعيدي الى بارئها حتى تصدرت اخبار وفاته وسائل التواصل الاجتماعي على نحو واسع جعل البعض يسأل كيف نال السيد بدر بن سعود رحمة الله عليه تلك المكانة بين أطياف المجتمع العماني؟ ولم تتأثر حتى بعد تركه للمنصب الذي شغله لعقود من الزمن وفي جهات عديدة؟
تلك الشخصية تحتاج أن توضع تحت المجهر وأن يسلط عليها الضوء لأنها تمثل ظاهرة.
ذلك أن المألوف في عصرنا الحاضر أن المسؤول تتآكل مكانته مع بقائه طويلا في المنصب وحين يخرج من الوظيفة يتراجع بل وربما يختفي ولا يظهر إلاَّ نادراً .
فلماذا استثنيت شخصية السيد بدر بن سعود من ذلك النسق ؟
أتمنى على الباحثين والدارسين الأكادميين أن يجعلوا من تلك الشخصية مدارا للبحث وتقديم خلاصة ما قد يكتشفونه كتجربة تدرس لرجال السياسة والاجتماع.
أما حديثي عنه في هذه العجالة فيعود الى كوني
قد عملت موظفا في وزارة كان هو رأس الهرم فيها، و قد قضينا معا عقدين من الزمن قبل أن يصدر المرسوم السلطاني بنقله الى وزارة أخرى.
وقبل أن أتتطرق الى ما اعتبره يميز شخصية معالي السيد بدر ، وحتى اقطع بعض الظنون التي قد تمر بفكر القارئ من كون السيد بدر كان مسؤولي ، فانا أشيد به ، لما حظيت به من عطايا ومكرمات وترقيات أضع بين هلالين الحقيقة التالية: ( أنني أمضيت ما يقارب من خمسة عشر عاما في منصب واحد ودرجة مالية واحدة ولم يحدث أن منحني عطية ، ولم أحصل خلال وجوده في تلك الوزارة ترقية الى منصب) لكن ذلك لا يعني أنه ظلمني أو أنني أحمل ضده مشاعر غير طيبة ، ربما كانت هناك ضروف حالت بيني وبين الترقي وليس لكليلنا سبب في ذلك ، ولذلك حين شاء الله لي أن أنال نصيبا كان في عهد مسؤول آخر ، وتلك أرادة الله وأنا راض كل الرضى لما وصلت اليه وحباني به ربي من نعمة الصحة والمال والولد … اللهم لك الحمد.
نعود الى نفس السؤال
لماذا السيد بدر بن سعود بن حارب؟
أول ما لفت انتباهي هو الامضاء بين هلالين(بدر بن سعود بن حارب)
لم يكتب البوسعيدي ، وتقديري في سبب ذلك ولا أجزم به هو انه كان وزيرا للداخلية والمعروف
ان الحقبة تلك كانت وزارة
الداخلية وزارة تتحول من وزارة سياديةبحتة الى وزارة تسهم في التنمية باعتبارها همزة الوصل بين الولايات والحكومة في مسقط مما زاد من رسوخها والتصاقها بالمجتمع وأصبحت محط انظار كافة العمانيين ، فاراد بذلك ارسال رسالة أن وزارة الداخلية بيت ومرجع للجميع فلاخصوصية لأحد العمانيون جميعهم في ميزان واحد ، فكانه أراد القول انه يعد نفسه فردا من أفراد أية قبيلة عمانية دونما تمييز ، فلم يضع لنفسه قبيلة وتلكم هي المدرسة القابوسية ، التي تُميِّزُ متى يذكر المسؤول فيها الانتماء القبلي ، ومتى يتم الاستغناء عنه.
فجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراه حين ساله الوزير المسؤول عن الاحصاء السكاني عن اسمه قال( قابوس بن سعيد بن تيمور البوسعيدي) وحال كونه سلطان فهو (قابوس بن سعيد).
وحتى لا يتبادر الى الاذهان أنه لا يعني بالنسب وجدناه حال توليه
منصب وزارة الداخلية يصدر توجيها بضرورة كتابة الاسم الثلاثي للشخص بعد أن كانت قد أخذت بعض الجهات تكتفي باسم الشخص والقبيلة دون ذكر اسم الأب والجد ، تلك التوجيهات اعادت الرزانة والرسوخ في المخاطبات
والبِرَّ بالآباء والاجداد.
*تعيين في المناصب*
نهج معالي السيد بدر بن سعود في تعيين الولاة ونوابهم منهجا اتسم بمحو الولاءات القبلية سواء من حيث الاشخاص أو من حيث الجغرافيا، مما أثار استغراب من لم يعرف شخصية السيد بدر، فوجدنا من يقول ، كيف يتم تعيين فلان في الجهة الفلانية ؟! مشيرين الى أحداث غابرة ، فكانت نظرته ثاقبة ، وأذكر أنني كنت مع شخص
ذكر لي أن السيد بدر استدعاه وقال له : لم شكوتني مع صاحب الجلالة ؟ بسبب تعييني فلان في ولايتكم ؟ ماذا حدث منه ولم يرضيكم؟ يقول الشخص أجبته أنني لم أشكوك وفلان مازال جديدا ، ولو حدث منه ما يعكر الصفو لأخبرناك أنت ، فإن لم تقم بواجبك شكوناك ، فتبين بعد ذلك أن الرسالة مدسوسة وليست من جهته.
*التواصل مع المجتمع*
ومن السمات الجميلة التي يلحظها الناس على السيد بدر بن سعود رحمه الله أنه وصولا متواصلا مع المجتمع العماني على اتساع جغرافية عمان
فلا تكاد تجد قرية عمانية لم تطأها أقدام السيد بدر مشاركا في الافراح والاتراح ويبهر من يلتقيه بتواضعه وروحه المرحة دون تكلف أو تزمت.
*إنزال الناس منازلهم*
كانت تلك إحدى صفاته دون تفريط في حق أي من يلتقيه ، قد لا تجد مطلبك لديه ولكن لديه من الحنكة والقدرة على أن لاتخرج من مقابلته الا وانت راض كل الرضى عن شخصه.
*سعوا الناس بأخلاقكم*
منهج اختطه على نفسه ولقد سمعت الناس تلهج بطيب محياه القاصي والداني ، وكان حريصا على أن يوصل هذا الشعور في كل حركاته وسكناته.
تلكم بعض الصفات التي اتسع الحديث عنها على عجالة وهي من تعامله مع المجتمع .
فماذا عن تعامله مع من يعملون تحت ادارته ؟
*الاستقرار والاطمئنان*
على مدى عشرين عاما لم أسمع موظفا بوزارة الداخلية متذمراً ولا سيما صغار الموظفين الذين عادة ما يكونوا ضحايا تعسفات ، كنت أشعر أنهم يعملون برضى عن أوضاعهم وكثيرا ما أشاهد حال زياراتي لمكتبه موظفين من الوظائف ذات الدرجات الدنيا ، ولا ادعي أنني كنت أعرف مطالبهم لكن على أغلب الظن تكون طلبات مساعدة ، الا أن وجودهم ووصولهم الى مكتب الوزير دون عوائق دليل على انفتاح الرجل الذي لم يعمل خلف الابواب المغلقة.
*كيف يتخذ القرارات؟*
ألمتمعن في قرارات السيد بدر يجدها تحمل طابعين إن لم تكن أكثر من ذلك ، الطابع الاول مصلحة العمل أو مصلحة المؤسسة ، والطابع الآخر إنساني ، يراعي فيه الآثار الايجابية والسلبية ، فيأتي القرار موزونا،سهل التنفيذ عائدا بالمصلحة المرجوة منه ، وهو حين يتخذ القرار لا يرى في التكلفة المالية عقبة كأدا ألأهم لديه أن تحصل النتيجة المرجوة من القرار.
*غياب الضجيج*
يتخذ السيد بدر رحمه الله قرارات حاسمة ومؤلمة أحيانا لكنها تظل في إطار الدائرة المتأثرةفلا تجد لها تسويقا وإثارة لاستعراض العضلات ، كما أن تأثير تلك القرارت ينتهي بتحقيق المأمول منها، فلا تراه يحمل في نفسه من أثر القرار .
*الإنسان يحصد زرعه*
هكذا رأينا كيف أن السيد بدر بن سعود بن حارب قد ذرفت عليه العيون وحزنت لفقده القلوب ، وتحسرت على رحيله أطياف مجتمع بأسره
نتيجة ما زرعه بين الناس من حسن تعامل
وما تحلَّى به من صفات المروءة والاخلاق والحلم وسعة الصدر والاتزان في معالجة الاحداث ، وسوف تبقى ذكرياته كأحد الرموز العمانية الذين كان لهم الأثر الملموس في تقوية اللحمة المجتمعية في عصر النهضة المباركة لجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراه.
أسبغ الله عليه واسع رحماته وأسكنه فسيح جناته والحمد لله أولاً وآخرا، وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
غصن بن هلال بن محمد العبري
مسقط ١٩ شعبان ١٤٤٤
الموافق ١٢ مارس ٢٠٢٣م
لماذا السيد بدر بن سعود؟

أحدث التعليقات