استيقضت من النوم كعادتي لأبدء رياضة المشي ـ بالطبع على جهاز وليس في الشارع ـ ففي مخطط الانصب بمحافظة مسقط لا توجد ارصفة يمكن ممارسة المشي اليومي عليها ، وبالمتوسط يكون زمن المشي عندي بين الخمسين والستين دقيقة.
خطر لي أن أذهب الى الحلاق استعدادا لجلسة شعرية مع لفيف من الشعراء في مجلس شخصية تعهدت رعاية الشعر والشعراء.
وبسبب امتلاء برنامجي اليومي لم اخلع ملابس الرياضة ، انطلقت بسيارتي ذات الدفع الرباعي الى صالون الحلاقة الذي لم أستغرق معه أكثر من عشرين دقيقة لاقفل عائدا للمنزل فأجد ابنتي تطلب مني أخذها الى بنك مسقط لتستلم بطاقة سحب مباشر بعد ان وصلتها رسالة يستدعيها البنك لاستلامها.
لقد قدرت أن الزمن الذي ستستغرقه الابنة لاستلام البطاقة ما بين خمس دقائق الى ربع ساعة ولذلك آثرت ان احملها الى البنك حتى قبل أن أستحم تخلصا مما قد أكون حملته من جراثيم أدوات حلاقة لا تعرف النظافة طوال يوم كامل لتدني الرقابة على المحلات ، وكان الوقت حينها الساعة الحادية عشرة .
توقفت امام بوابة بنك مسقط بالانصب التي لا تكاد تتسع لشخص واحد يمر من خلالها وقد شبهتها بثقب لخلية نحل داخل جذع نخلة ، بقيت انتظر في السيارة بين قراءة رسالةوكتابة رد عليها حتى استنفدت كلما في ذاكرة الهاتف من رسائل لانظر الساعة وقد جاوزت الثانية عشرة ظهرا والبنت ما تزال داخل البنك لتعود اليَّ وتخبرني بان عشرين عميلا ما زالوا امامها في الانتظار ولم يكفني ذلك الدرس لافهم أنه كان عليَّ الرجوع الى منزلي فقلت لها عشرون شخصا على كم موظف ؟ أجابت ثلاثة ، فقدرت ان الزمن الذي تستغرقه عشر دقائق وفي هذه الحالة لا اكاد أصل المنزل حتى أعود فقررت البقاء حيثما أنا وبدأت في كتابة قصيدة بلغ طولها اثنى عشر بيتا لانتبه لابنتي تخرج من البنك الساعة الواحدة والربع. فتملكني العجب العجاب مما حصل ذلك انه لا تكاد تمر دقيقة إلا ويدخل فيها شخص ويخرج آخر فكيف بقيت هذه البنت المسكينة ساعتين وربع لاستلام بطاقة لا تحتاج الا لتوقيع يستغرق ثلاثين ثانية ؟!
عدنا الى المنزل وقد فاتني فضل صلاة جماعة الظهر فأخذنا نتحدث مع بقية افراد الاسرة لينكشف لي ما لم أكن اعرفه من قبل لانه ليس لي رصيد يعتد به ، فما هو ذلك الشيء المخفي عن امثالي من ذوي الارصدة المتدنية؟ لقد تبين لي أن البنك يصدر بطاقة خدمات اسمها الجوهر وأخرى إسمها أصالة لمن رصيده كذا من المال او راتبه الذي يحول الى البنك كذا قدره وتلك البطاقة يتم استخدامها في الورقة التي تحدد موقعك من الانتظار ، ولا تصرف تلك البطاقة إلا لمن مرتبه او المحول الى حسابه مابين الف أوالفي ريال شهريا وكلما كان المبلغ المرصود او المحول اكبر يتقدم على من سبقه حتى من حاملي بطاقة الجوهر او اصالة ، وتلك المسكينة لم تكن بعد قد وصلتها البطاقة البنكية ناهيك عن عدم وجود رصيد بها.
وهنا تمثل امامي البشع والجشع وعبدة المال وساحقوا الفقراء بجبروت أموالهم ، فكم اتمنى على البنوك داخل السلطنة لو تضع لذوي الارصدة البسيطة خط سير خاص بانهاء معاملاتهم حتى لو تأخروا بعض الشيء لأن الشعور بالمهانة والقهر سيكون اقل من ان يروا الآخرين يقفزون على اكتافهم لتُنْهَى معاملاتُهم بسرعة البرق وهم متسمرون على مقاعدهم لساعات في وقت يتم الحديث عن مراعاة حقوق الانسان ، فأية حقوق تلك التي تراعى ؟! الجوع ؟ العري؟! عدم الاتجار بالانسان ؟! هذه الامور كفلها رب العالمين وهو الذي يعاقب عليها ، فإن كانت هناك بقية من مشاعر بالانسانية لدى عبدة المال المتسلطون على رقاب البشر يعاملونهم فقط لإنسانيتهم لا بما يملكون او لا يملكون .
وكم احزنني احد العملاء وهو يخبرني شاكيا الى الله باكيا قائلا انه كانت لديه بطاقة لا اعرف اسمها ولكنه قال انها تحمل رصيدا بداخلها يعتمد عليها في أسفاره وجاء فقط لانه نسي الرقم السري فاخذت من يده ووضعت في جهاز ممزق الاوراق حتى انهم لم يكلفوا نفسهم معرفة كم فيها من رصيد وحينما سالهم عن اسباب فعلتهم قيل له بابتسامة صفراء انظر بطاقتك الشخصية لتعرف سنة ميلادك إنك على حافة القبر والبنك لا يكفل مثلك قال لهم راتبي لديكم منذ ثلاثين عاما وهذه بطاقة اشتريتها فادار الموظف وجهه ومقعده الى الخلف.
مسكين انت ايها العميل البسيط ما أنت إلا مدهاش للصلوب او ما يسمى باللهجة المحلية ( القشقاشة) التي لا يرتجى منها الجمر بل من ( الصلوب الكبيرة) الحطب الصلب.
و إذاً في ظل ذلك التعامل الذي أصبح الانسان فيه مجرد رقم ما مصير فئآت في المجتمع من مثل ـ المتقاعدين ـ الضمان الاجتماعي ـ وشاغلوا الوظائف الصغرى ـ والذين يشكلون شريحة كبيرة من عملاء البنوك ـ إجبارا لا اختيارا ـ فمن يلتفت إليهم ؟ ولماذا الجهة المشرفة على البنوك لا تأخذ في الاعتبار هذا الجانب رغم ما يحدث في صالات البنوك من تذمر وشجارات كلها تدور حول انجاز المعاملات وفق آلية الانتقاء؟ فتلك الجهة تتحمل مسؤولية أخلاقيةباعتبارها شريكة في تمويل تلك البنوك التي تستغل مخصصات العملاء العاملين في الجهاز الاداري للدولة لما يزيد على عشرة أيام وبذلك يتوجب على تلك البنوك تقديم الخدمات المصرفية الجيدة بعيدا عن الطبقية الطاغية وإلفات نظر من يخل بمستوى تلك الخدمات وبالطبع انا لا اطالب البنوك ان تتصل بالعملاء المساكين لتخبرهم بوجود بطاقة الجوهر او اصالة اوغيرها من البطاقات ليذهبوا لاستلامها كما يفعلون مع اصحاب الارصدة السمينة ولا ان يذهب موظف خاص الى منزل عميل كي ينجز له معاملته في حديقة الدار فذلك إن حدث مني فهو محض هراء ، فقط أطالب ان لا تهدر كرامة شيخ كبير السن او امراة عجوز او عامل نظافة بسيط .
أحدث التعليقات