كثيرا ما يأتي على لساني قول المتنبي
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والاقدام قتال
هذا البيت أشكل عندي فهمه وخاصة عجز البيت أما صدره فيبدو من الوضوح بحيث لا يحتاج الى زيادة بيان أما عجزه فانني قد احتجت فترة من الزمن لفهمه ذلك أنه يستبعد من شاعر كبير كأبي الطيب المتنبي أن يقصد ان الجود يفقر وأن الاقدام بالضرورة يؤدي الى الفناء.
وأخيرا توصلت الى أن ابا الطيب يقول ذلك حكاية عن البخلاء والجبناء فهم من يتصورون أن الجود يؤدي الى الفقر وان الإقدام صيرورة الى الموت المحقق فهو من باب التهكم ، وإلا فان شواهد الحال تثبت عكس ما قاله ابو الطيب في عجز بيته أما في صدر البيت فقد أصاب كبد الحقيقة.
ولعلني في هذا المقام اذكر موقفين في مجال الكرم والاقدام ولا بد حين يذكر الكرم يتبادر الى ذهن السامع الاقدام فبذل المال يتطلب الكثير من الشجاعة.
ذات يوم وحينما كنت موظفا في إحدى ولايات الباطنة – سأذكرها لاحقا – رنَّ هاتف المكتب فلم يكن بعد الهاتف المتنقل منتشرا في ذلك الأوان ، رفعت السماعة ليقول لي المتصل أن جدة أم اولادي أدخلت مستشفى تنعم بولاية عبري وان حالتها ليست بالجيدة ، وكما هي عادة العمانيين بادرنا فورا بالتفكير في زيارة المريضة .
كان علي أن أقطع مسافة لا تقل عن خمسمائة كيلومتر لاصل الى ولاية عبري
وكان ذلك خلال شهر رمضان والزمن صيفا ومهما حاولنا ان نسارع في الطريق لن نتمكن من الوصول قبل حلول الليل .
وفي الوقت الذي كنت فيه اتلقى المكالمة الهاتفية كان معي في المكتب أحد المشائخ وهو يعرف أن سيارتي الوحيدة الصالون ذات العمر ألاثني عشر عاما ليست السيارة المناسبة لرحلة طويلة في نهار رمضاني قائض ، فعرض علي المسير عبر الطريق الجبلي الذي يربط منطقتي الباطنة بالظاهرة ويعطيني سيارته الرنج روفر أملا في قطع الطريق في زمن لا يتجاوز الساعتين ، تجاذبنا الحديث طويلا قبل أن يقسم علي بقبول عرضه الذي نزل على قلبي بردا وسلاما .
قبل انتهاء فترة الدوام بساعة انطلقنا أنا وزوجي ومعنا أطفال جميعهم تحت سن العاشرة .
لم تكن لدى ذلك الرجل غير تلك السيارة ومع ذلك لم يتردد لثانية في أن يقدم سيارته وأشهد الله سبحانه انه لم يكن لتربطه مصلحة بي سوى الصحبة والسيرة الحسنة.
قطعنا من الطريق ما يقرب النصف ونحن نتلهف للوصول الى عبري لنستريح قليلا قبل موعد الافطار لننطلق بعدها لزيارة المريض.
وفي خضم الاحاديث التي كنا نخوض فيها عن كرم الرجل الذي أعطانا سيارته إذا باحد إطارات السيارة يعلن عن فقدانه الهواء لنقف على جانب شبه الطريق لانه في واقع الحال ليس طريقا بل هو آثار لمرور سيارات ليس إلا.
نزلت من السيارة لاقوم باستبدال الاطار بالاحتياطي فاذا بالاحتياطي لديه نفس المشكلة.
الساعة جاوزت الواحدة والهواء الساخن يشوي الوجوه وما لدينا من مياه الشرب لا تكفي للاطفال اكثر من ساعة واحتمالية ان تمر سيارة الى الاتجاهين قليلة ان لم تكن معدومة ، إذا علينا ان نوطن أنفسنا لمرحلة شديدة وحرجة غير ناسين أهمية التوسل والضراعة الى الله سبحانه وتعالى بفك محنتنا.
مضت ساعة كاملة منذ أن توقفنا ولم تمر سيارة ولكن هناك بصيص من الامل اذ يتراود الى اسماعنا حنين مختلط مع عوي الرياح لعله يكون لسيارة قادمة ونتمناها ان تكون متجهة الى الباطنة فليس من السهل علينا ترك سيارة الرجل المتفضل في قمة جبل لا نعرف ما يحدث لها كما انه من المستحيل أن أضع زوجي واطفالي في سيارة وابقى انا عند السيارة .
بعد دقايق وصلت السيارة التي نسمع لها الحنين ولم نكن بعد قد وصلنا الى المرحلة التي نترك فيها سيارتنا ونقفل عايدين الى الباطنة.
طلبنا من صاحب السيارة بعد أن عرفنا أنه سيصل الى الولاية ان يتجه لمنزل شخص آخر ليس صاحب السيارة ويخبره أننا عالقون في الطريق ونحتاج للمساعدة وقد وعد خيرا وان لم يبد حماسا ظاهرا .
وعند الساعة الثالثة بعد الظهر بدت على أنفسنا حالات التعب الناتج عن العطش والقلق واتفقنا انه إن مرت سيارة لاي من الاتجاهين نركبها ونترك سيارتنا لانقاذ الارواح .
عند الساعة الثالثة والنصف تقريبا راينا سيارة قادمة من جانب الظاهرة متجهة للباطنة وكانت السيارة تلك بمقياس اليوم لا تصلح للسير على الطرق ومع ذلك كانت بالنسبة لنا اعظم هدية من رب العالمين ، السيارة بكب بكبينة واحدة وحوض السيارة من غير مقاعد ركب الاطفال بفرح شديد في حوض السيارة وركبت انا بجوار سائق السيارة وزوجي على يمينى ، وقبل أن تتحرك السيارة سقط منها مفتاحها فقلت للسائق مفتاح السيارة قد سقط قال متعود ما شي خوف.
وتحركنا نحو الباطنةآيسين من ان تكون رسالتنا وصلت نحو الشخص الذي طلبنا منه العون وآسفين على ترك سيارتنا في مكان ابعد ما تكون عن الامان ولكننا لم نكن لنستطيع المغامرة بالبقاء في مكان مرور السيارة فيه من اكبر الحظوظ.
قطعنا في سيارة البكب اقل من نصف كيلو قبل ان نرى سيارة قادمة من الباطنة وتعطي من بعيد إشارة خطر توقعنا ان تلك السيارة قادمة لاجلنا فطلبنا من السائق ان يعطيه إشارة بالانوار إلا أن السيارة كانت سريعة جدا ولم تتمكن من الوقوف الا على مسافة مئآت الامتار.
وصل الرجل الذي طلبنا معونته ومعه أربعة اطارات جدد لسيارة رنج روفر
ومعه صندوق مبرد به جميع انواع العصاير والماء والثلج .
وفي لحظات قام هو بمساعدة مني بتركيب الاطارات الاربع.
فسالته من اين قدرت توفير الاطارات
قال رفعت السيارة و انزلت منها الاطارات وهي الان معلقة فعجبت كل العجب من موقفه وصرت في ذهني أردد: لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والاقدام قتال
فقلت يا أبا الطيب اعتذر اليك أنني لم أفهم ما ترمي اليه.
توادعنا بعناق يشبه عناق العائدين من البحر بعد سفرة شاقة واخذنا طريقنا الى ولاية عبري فيما هو عاد الى ولاية الكرم والوفاء إنها ولاية الخابورة .
أمَّا أصحاب الفضل فاحتفظ لنفسي بلحظة ذكر اسميهما ربما في مناسبة أخرى.
ولكنني أقول يا أهل عمان لا تقولوا قد ذهب الكرم مع أهله فالكرماء في عمان ما اكثرهم والكرم سيبقى سمتكم التي عرفتم بها وتلهج الألسن بكم في مشارق الارض ومغاربها فعمان كما تفضل جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله أرض طيبة لا تنبت إلا طيبا.
صورة من صور الكرم

أحدث التعليقات