حين قمت بنشر مقالتي عن جلسة الشواء ثالث أيام العيد بسبلة السحمة انبرت أصوات تستنكر غيرتي على سبلة السحمة وقد وصل الأمر ببعض الأشخاص أن اعتبروني من العراقي بمحافظة الظاهرة متناسين أن الفخائذ الرئيسية في الحمراء أصولها في العراقي كون الحمراء جديدة عهد والعبريون كانوا متفرقين في أنحاء شتى من عمان
وما زال لهم أبناء عمومة في معظم الأمكنة التي قدموا منها فليعرف كل واحد من أين قد أتى ليتلمس جذور تاريخه.
أمَّا غيرتي على الحمراء فهي شرف عظيم قد يحرم منه الكثيرون
وغيرتي على سبلة السحمة مردها أن أجدادي هم من أسسوها فهي إذا تمثل جانبا مهما من كينونتي كشخص ومن تأريخ قبيلتي العريق الحافل بالامجاد .
ولذلك سيكون مقالي اليوم بعنوان ماضي السبل في مدينة الحمراء.
*****
حينما كنتُ نائب للوالي بنيابة دماء والطائيين في منتصف تسعينات القرن الماضي وفي جولة عمل لبلدة أسمها القرية من تلك النيابة استضافنا مشايخها لتناول القهوة وبدا كأن الشخص الذي يصبُّ القهوة تغافل عن أخذ الفنجان من يد أحد الذين قد غَنَّمَ عليهم فقال ْله كبيرهم لو كنت قد تعلَّمْتَ السَنَع في سبلة السُحمة ما نسيت الفنجان .
في تلك اللحظة إنتابني شعور بالفخر أن تصل سمعة سبلة السُحمة إلى مكان كذلك الوادي البعيد جغرافيا عن الحمراء الذي يكابد اهله التواصل فيه ناهيك عن أن يقدم إليه مُتَنَزِّهٌ كحال هذه الأيام بعد أن تمَّ ربطُ النيابة بشارع مسفلت مع شارع مسقط صور ، لكنني لم أظهر اهتماما بالمقولة مع أنني بقيت أتساءل كيف وصلت سمعة السبلة إلى هناك؟ وقد يقول قائل أن المقولة تلك قد قيلت مجاملة لي، بالطبع لا ، لأنهم لا يعرفون أنني من الحمراء فانا مشهور بينهم أنني من ولاية عبري كوني أخرج إجازتي إلى هناك.
وفي خضم تفكيري وإعجابي كيف أن السِّبَل استطاعت أن تجسد وتستوعب تراثا ثقافياماديا ومعنويا ؟ تمثلتُ بلادي الحبيبة حمراء الصلف وكيف انها تنبَّهت في وقت مبكر لأهمية السِّبَل فانشاتها وفق نظام إجتماعي و تخطيط عمراني متقن كما هي حالتها في جوانب حياتيةٍ عديدة ، فلكل فخيذة سبلتها ، وربما تكون سبلة اقدم من الأخرى كسبلة السحمة التي بناها الشيخ محسن بن زهران بن محمد بن إبراهيم في أرض تبرع بها اخوه الشيخ محمد بن زهران بن محمد ، وفق ما جاء على لسان حافظة تاريخ الحمراء ومرجعه الشيخ جبر بن محمد بن سيف بن بدر بن محمد بن زهران العبري
فسبلة الصلف وسبلة السحمة سبلتان كانتا تدار منهما شؤون قبيلة العبريين تعودان لفخذ اولاد زهران باعتبار الإنشاء وبقياس ان لكل فخيذة سبلتها كما يتبين من واقع الحال الجغرافي والديموغرافي.
ولعلَّ اختيار الشيخان للموقع في السحمة بعيدا عن الحارة يرجع إلى كونهم لا يرغبون دخول الضيوف إلى الحارة لماقد يمثله ذلك من خدش لخصوصيات البلد بعد أن تزايد عدد الوفود الزائرة ، والدليل على ذلك ما اورثوه للأجيال من بعدهم من تحفظ أن تسلك النساء الطريق الرئيسي في الحارة خلال وجود الضيوف وسيرها في السكك بين البيوت ، وما يحكى عن أن الإمام سالم بن راشد الخروصي أقام في الحمراء سبعة أيام قبل توليته الإمامة ولم تبصر عينه إمرأة في طريق حتى كاد يخامره الشك في وجود نساء لولا سماعه عند الغبشة قبل الفجر صوت غسيل هرقة اللبن لدليل على ذلك التأسيس.
وفي المكانة التي احتلتها سبلة السُحمة قيلت أبيات من الشعر في إطار مدح الشيخ محسن بن زهران بن محمد بن إبراهيم باعتبار أنها اول سبلة مُفَتَّحة الأبواب للقادمين للحمراء الذي قال عنها الشيخ إبراهيم بن سعيد بن محسن بن زهران العبري في معرض حديثه عن الشاعر الشيخ الفاضل الفلكي أبو موسى علي بن ناصر بن محمد بن حمير النبهاني التنوفي في مدائحه للشيخ محسن بن زهران وأخيه محمد وابنيه حمد وحمود جاء ما نصه والكلام الذي بين هلالين للشيخ إبراهيم بن سعيد العبري
(وفي مدح النَّادي الذي أهَّلَهَ للوفودِ والقصادْ بارزا في كل وقت لا يغلق له باب ولا حاجب من الحجاب ويُعْرَفُ هذا النادي بسبلة السحمة)(التبصرة)
وفيما يلي أبيات النبهاني التنوفي الوارد إسمه أعلاه
يا مجلس المجد لا سؤلٌ ومسئولُ
إلا اليكَ ولا طَول ولا طُولُ
انتَ السماءُ وشمسُ المجد مشرقةٌ
ولا يقاس بنور الشمس قِنديلُ
ما فوقَ فوقِكَ من عالٍ بمرتبةٍ
ولا مَحلِكَ بالوُفَّادِ مجهولُ
بمحسنٍ حَسُنَتْ عليا محاسنهِ
وقد رَسَى منه تأصيلٌ وتوصيلُ
لا غَرْوَ أنْ عمرتْ بالمجد أبنيةٌ
بمثله وهو مامولٌ ومأهولُ
وممن قال شعرا في سبلة السحمة مجاريا للامية الشيخ علي بن ناصر الشيخ الفقيه عبدالله بن حميد الغافري في أبياته التالية:
بمجلس المجد تاميلٌ وتجليلُ
للمعتفين وتاثيرٌ وتأثيلُ
فيكَ الشموسُ إلى أعلى السما رتبا
والبدر فيك له شبه وإكليلُ
ما أحدث الناس بنيانا يشابهه
كلا ولا مثله حاكَ التماثيلُ
بمحسنٍ حَسُنَتْ أسنى محاسنهِ
فلم يَفُتْهُ مدى الأيام تكميل
حُقَ الهناءُ له إذ شاده وغدا
كهفا تلوذ به الشمُّ البَهاليلُ
ومع ذلك لا يمكن الجزم بأن سبلةالسحمة أول سبلة بنيت ولكنها أول سبلة يمكن تسميتها بالمناخ والمنصى للضيوف.
وكما اوردنا أنَّ لفخائذ العبريين سبلهم
الخاصة كسبلة الغاربي وسبلة الوسطى والسبلة الشرقية وسبلة العالي وسبلة الشرامحة وسبلةالراعي وسبلة الحارة الحديثة ، تلكم السبل كانت تمثل التركيبة السكانية لمدينة الحمراء وإليها توجه الخطابات حينما يتعلق الامر بموضوع عام بل كثيرا ما ترتبط السبل بالفخيذة كسبلة اولاد ناصر وسبلة اولاد سالم وسبلة اولاد علي بن مسعود وسبلة الشرامحة وهكذا بقية السبل
وفي تلكم السِّبلْ كانت تتم تغذية الشباب بمعاني القيم الدينيةوالاخلاقيةوتحبيب خصال الكرم والمروئة والشجاعة وحب التضحية في سبيل رفعة الأوطان والذود عنها فلم تكن للشباب مراكز للتدريب او كليات لتعليم مناهج السلوك ولكنهم تخرَّجَوا من السِّبلْ . قاماتٌ طويلةٌ ورموزٌ يشارُ إليها بالبنان رجالٌ قَدَّموا ارواحهم ذَودا عن كرامة ارضهم واهليهم ورجالٌ جعلوا من الحمراء قبلة تفد إليها القبائل لنيل العلم والرفد والجاه ، فما أجملك من بلاد أيتها الحمراء ذات القصور الشامخة والقيم الراسخة وما أعظم رجالك الذين سارت بسيرتهم الركبان وتحدثت عن محامدهم الألسنُ في كل مكان فطالت بسمعتهم رقابنا واستثقلت مما تركوه لنا أعقابنا فعجزنا عن التقليد ناهيك عن التجديد وهكذا هي السنن قوة بعد ضعف وضعف بعد قوة ، واختم مقالتي بالاسف والعتب على حالة سبلة السحمة التي احيلت بكل ما حملته من تاريخ حافل وقيم نبيلة
إلى شبه مخزن ، كانما هي الوحيدة بين كل السبل الصالحة لذلك الغرض أو كأنها اليتيمة التي ليس لها من يكفلها ، أو كأنما هي وصمة عار يجب أن تختفي
يااخوتي يا بني عمي و يا نسبي
مالي أرى أمركم أفضى إلى شعب
كـأنني بكـم لا تعلمـون بمـا توحي به سـبلة السـحما من الأدب
تلك المنارة لو تدرون سمعتها
غَنَّى الحُداةُ بها في الوخد و الخبب
والنـَّاسُ تحسـبها للجيل جامعـة
أو أنهـا لـكـم كـالمنتـدى الأدبي
لكن ويا أسفي إن شابها صدع
لم تلق منكم لذاك الصدع من رأب
كأنها لم تكن يوما لكم كنـفـا
ولا لآبائكم من سالـف الحقب
أحلتموها إلى مستودع وكذا
حال الذي ليس في اهليه من رغب
إن الوفاء لها يعني الوفاء لهم
فلتجعلوها لكـم كالأم أو كأب
ولتعلموا أنها رمز لعزتكم
رمز لوحدتكم مع سائر العرب
ثـم الصلاة على خير الأنام كما
صلى عليه إله العرش في الكتب.
ولله الحمد على كل حال.
٢٥من ذي الحجة ١٤٣٨
١٦ من سبتمبر ٢٠١٧ م
أحدث التعليقات