حين تحدثت في المقال السابق على هذا الذي أنا بصدد كتابته الآن والذي سُلط الضوءُ من خلاله على سوق الحلقة في مدينة الحمراء .
جاء من يطلب مني أن أكتب عن سوق الحمراء ،
والحق يقال أن السائل قد أثار بي شجونا وفتح بابَ مَخزونٍ من الذكريات صاحبتني منذ طفولتي
وترسَّخَتْ في أعماق أعماق نفسي ولم أكن أعلم أنني أحمل كَمًّا هائلا مما يثري الحديث عن السوق في مدينة الحمراء.
ولعلكم تلاحظون أنني بدأت أذكر عبارة مدينة قبل ذكر الحمراء ، لأن البعض يخلط بين الحمراء كولاية في العهد الحاضر وبين الحمراء كمدينة فكلما ذكرت شيئاً مما تتميز به الحمراء ظهر من يقول لم لم تذكر البلدة الفلانية و و و .
وما ينبغي أن يعرفه القارئ أنني أكتب ما أعتبره جزء مما شهدته وعايشته بنفسي ومما سمعته من ثقات ومن أكثر من مصدر.
لذلك أرجو أن يفهمني من يقرأ لي أنني لا أقعُّد تأريخا ولا أنسج خيالا بقدر ما أعيد شريطا من الذكريات وذلك حق مكفول لكل إنسان لديه الرغبة في أن ينقل معلومة تكاد أن تندرس ولها قيمتها التاريخية والثقافية كما هو حال حديثي هنا عن سوق (مدينة الحمراء الذي أسسه الشيخ زهران بن محمد بن زهران العبري).
من المسلمات البديهية أنه لا يمكن أن تقوم أيًّةٌ حضارة حقيقية من غير أن تصاحبها نظمٌ وقوانين فهي أي النظم كالسياج للبستان والسور للقصر .
وقد تكون القوانين مكتوبة وكثير منها يتعارف عليه والمتأمل في سوق الحمراء يجده يسير وفق نظام دقيق محكم مُفَعَّل كفل له الحركة المستدامة طوال العام .
ولا غرابة في أن يكون سوق الحمراء نشطا فكل العوامل تمنحه ذلك النشاط المتجدد.
فهو يقع بين أسواق أربع مدن بهلا ونزوى والرستاق والعوابي
وحوله من الموارد الغذائية والصناعية ما يمكن أن يطلق عليه في ذلك الزمان ثروات حيوانية وزراعية ففي الجبل ما يزيد على ثلاثة عشر الف رأس من الأغنام تمد السوق بالشعر والصوف والسمن واللحم واليهب والمنسوجات كالسيح والمناسيل وحبال الشعر وأقذلة الخيل وغُرَضْ الركاب والحمير ناهيك عن الأغنام والابقار المربَّاةُ في الحمراء والقرى المجاورة التي تمد السوق بسمن البقر وكثير من الأغنام التي تغطي الاحتياجات المحلية وتصدر إلى الأسواق المجاورة.
وفي الجانب الزراعي تمده الحمراء بنفسها والقرى المجاورة بالمنتجات المتمثلة في التمور و البر (الحنطة ) والفواكه والليمون المجفف والبصل والثوم واللوبيا والدنجو والمنج والحلبة والفلفل والسمسم ، وعسل النحل والنخل ومن الزيوت حل الشوع وحل القفص إضافة إلى الحطب والحشيش والسخبر والقصب والغفَّة والتبن .
وتحيط بالسوق صناعات عديدة منها :
صياغة الفظة والنجارة والحدادة والصفارة والدباغة والشمارة والنساجة وصناعة الفخار
والسعفيات المتمثلة في السميم بأنواعها المستخدمة للجلوس وتلك المستخدمة للخباط والجداد والاعزفة والاغطية والخصافة وحبال القلاد والمزامي والقفران والمحافر والزبلان أدوات لا غنى لأحد عنها في الأزمنة الغابرة وكانت تلك الصناعات تشكل الدخل لأسر كثيرة .
كيف يدار السوق وما هي أوقات مناداة كل بضاعة؟
سبق وقلنا أن السوق يسير وفق نظام محكم ومفعل وهنا نشرع في التفصيل.
للسوق مشرف أو ناظر لا يكاد يغادره إلا للصلاة وتناول الطعام وهو من الشخصيات البارزة والمهابة ولديه صلاحيات واسعة في الإشراف على السلع ومراقبة المناداة وفض الخلاف الذي قد يحدث بين الدلاليل والزبائن وأصحاب البضايع فإن كان الخلاف مما يستدعي رفعه للشيخ فقوله هو الفصل عند الشيخ ولهذا كان السوق منضبطا ولا يكاد يخرج عن المشرف إلا ماكان يستوجب فيه نظر الشرع أو صلحا مكتوبا .
وللمناداة على البضايع والسلع مواقيت محددة لا يمكن تغييرها مراعاة للمحتاج لكي لا يضطر للبقاء في السوق انتظارا للسلعة التي يحتاجها فلكل سلعة وقتها.
تبدء المناداة على الأغنام والقت والقصب والغفَّة والحطب والسخبر وحشيش الجبل وذلك كله عند الضحى
تتبعه المناداة على السمك المالح والمشوي والجرجور( وكان الإعلان عن وجود الأسماك يتم بالصيحةفإن كان سمكا مملحا يعلن عنه بصيحة واحدة وإن كان مشويا بصيحتين وتصل الصيحات إلى أنحاء حارة الحمراء لعدم وجود ضوضاء في ذلك الزمان)
على أن كل الذي ذكرته تتم المناداة عليه في العرصة الواقعة أمام الباب الكبير للسوق خارج قصبة السوق لتنتهي المناداة عند أذان الظهر.
وبعد صلاة الظهر يبدأ نشاط السوق بالداخل لتتم المناداة على السمن بنوعيه البقر والغنم وأكثر كمية ترد إلى السوق سمن الغنم بما يزيد على ثلاثة ارباع المعروض وطريقة بيع البضايع شبيه بما يحدث في البورصات اليوم فلا يمكن المناداة على كل الكميات المعروضة كما أن الكمية لا يستوعبها الاستهلاك المحلي فأغلب الناس منتجون.
فمثلا السمن يحتاج وزنه أكثر من ساعتين .
فكيف يتم تحديد سعر السمن مثلا ؟
تتم المنادة على أنموذجين من السمن البقر والغنم ويقوم التجار بالمزايدة عليهما بناء على السعر الذي يناسبهم كونهم يبيعون السمن بالتجزئة وما يصل إليه من سعر تُقوَّم به كل الكمية الموجودة في السوق ليتم وزنه بعد صلاة العصر إلى حلول صلاة المغرب . وتصل كمية السمن المجلوبة للسوق في اليوم ما يزيد على ٢٠٠ كيلو جرام
يصدر معظمه (لمسكد) أو كما يحلو للبعض تسميتها بالبندر يقصدون مسقط ومطرح .
وهكذا الحال في البضايع الكثيرة الحجم في السوق ينادى عليها ويتم وزنها بموجب السعر الذي وصلت إليه السلعة كالفلفل والليمون الذي يباع بالوزن فيما السعتر يتم بيعه بالمكيال وكذلك الحبوب والبقوليات. أمَّا الثوم والبصل والشباص والدوك والقاشع والغزل من الصوف والشعر يسعر بالوزن كذلك. في حين انَّ العسل والتمر والعوال يباع بالوحدة .
ولكون الفلفل يأخذ حيزا كبيرا من المكان ويثير حساسية فإن النداء عليه يكون لِعَيْنَةٍ لا تزيد عن عشرة قرون أما وزنه فيتم خارج السوق من الجهة الغربية ويصل عدد جواني الفلفل بالعشرات خاصة وقت حصاده.
متى كانت ذروة السوق؟
ذروة السوق تكون بين صلاتي الظهر والعصر
في حين يظل السوق بعد العصر للفئة التي عادة لا تستطيع الدفع وتبتاع بالديّْنْ ولذلك ظهر ما يسمى بسوق العصر في الحديث عن الحاجة
حتى صار مثلا للشخص المحتاج كأنْ يقول (ما منك انته من سوق العصر ) تعبيرا عن استيائه ، ذلك أن الذي يُخَرِّجُ بالدين لا يستطيع الاقتراب من الدكاكين في ساعات الذروة لسببين الأول أن التاجر بطبيعة الحال سيهتم بالذي نَقْدُه في يده
والسبب الثاني أنه يحاول التواري بنفسه خجلا إلى ان يحين موعد إغلاق السوق فيتقدم الى الدكان
دون أن ينبس ببنة شفة منتظرا من التاجر أن يسأله عن حاجته فيجيبه على استحياء اريد كذا وكذا ولكن ما عندي اوفيك.
ومازالت عالقة في ذهني صور لأشخاص مخرافتهم في يدهم مجموع ما بداخلها من مواد لا يزيد على كيلو جرام ، بها من الأرز والبصل والسمن والسكر والقهوة وحل الحليل وحل التراب . تلك هي سمة سوق العصر.
ومما تجدر الإشارة إليه في نظام السوق أن الدلال ليس له أن يفتح دكانا بقصد البيع وإنما هو مستودع لما سوف ينادي عليه ولذلك ما رأينا من دلال ينادي وعنده دكان وحين يقرر فتح الدكان يكون قد ترك المناداة وصار معروفا أنه ليس دلالا وذلك منعا للإحتكار.
وقبل أن أنهي الحديث عن السوق لا بد من التعريج على عرصات السوق في الداخل وهي :
عرصة التمر ، عرصة الحَبْ ، عرصة السمن ، وعرصةالغزل، وعرصة اللحم التي تشمل أربعة أشخاص قَصَّابونَ مختصون ليس لأحد غيرهم أن ينافسهم داخل السوق و يقومون بذبح ما بين أربعة رواس إلى ثمانية رواس من الغنم واحيانا يذبحون بقرة وبعضا من الأغنام.
وفي حالة إن يبقى فائض من اللحم يتكفل الشيوخ باخذه بقيمته وأكثر من يأخذه الشيخ التميمة لاعتبارات متفق عليها .
كما أن لكل مهنة أو صناعة في السوق أشخاصا معروفين كصناعة الحلوى و الصفارة والحدَّادة والقصابَةُ والشمِّارة والنجارة والصياغة والنَّساجة حتى أنَّ المهنة ارتبطت بأسماء فإذا قلتَ فلان مباشرة تأتي بمهنته بعد إسمه فصار صاحب المهنة عَلما لا تحتاج إلى ذكر نسبه لانه مشهور بتلك المهنة.
واختتم حديثي عن السوق بما سمعته من آبائي أنه كان سوقا ضعيفا رغم ما يتوفر له من مقومات ورغم أن عرصات السوق لا يؤخذ عليها رسوم كما في الأسواق المجاورة ، فعُقِدَتْ جلسة تشاور تشخص أسباب الضعف التي يعاني منها السوق فتبين لهم أن بعد المسافة بين سوق الحمراء والأسواق المجاورة تجعل المتنقلين يضطرون للمبيت في الحمراء وذلك يفقدهم يوما من التجارة علاوة على تكاليف المعيشة ومشقة الحصول عليها والسبب الرئيس في ذلك التأخير هم الدلاليل لأنهم يتأخرون في تصفية حساباتهم إلى ما قبل المغرب فتستحيل بذلك عودتهم إلى بلدانهم
فأُصْدِرَ أمْرٌ للدلاليل أن يقوموا بأنهاء المحاسبة قبل صلاة العصر وكذلك يقدمون وجبة عشاء للقادمين من الأسواق المجاورة قبل مغادرتهم مما يكفل لهم وصولهم إلى بلدانهم في وقت مبكر من الليل
فكان من نتيجة ذلك أن أصبح سوق الحمراء أكثر قوة من الأسواق المجاورة لتوسطه بينها كنقطة التقاء .
ذلك ما كان عليه سوق الحمراء الذي أصبح أطلالا يُشفق عليه اليوم .
رائع جدا هذا السرد وكأني أشاهد فلما وثائقيا محترف الانتاج، وحري بهذا السرد أن يتحول إلى مشروع مرئي يتبناه صناع الوثائقيات المرئية
وما أجمل أن يكمل الكاتب مشواره في الكتابة عن مدينة الحمراء في كل الجوانب الاقتصاديةو الاجتماية والعلمية والسياسية وغيرها بكل شفافية فهذا من التاريخ المشرف المستحق للدراسة والاعتبار.
محبكم أبولؤي