سأكتب اليوم حروفي بسيل جارف من الدموع للحمراء الغالية معتذرا إليها
عن كل تفريط صدر بحقها
عن العقوق الذي ألحق بعرصاتها والضربات المتلاحقة الموجعة التي حلت بها من أبنائها ، عن التخلي الذي أحال نضارة أثوابها إلى خلقات بالية
سأترحم على تلك النفوس العالية الهمم ، السامقة القمم ، الراضية بما لها الله قد قسم.
تحاصرني ذكرياتك أيتها الأيام الخاليات ما ذا سأكتب وماذا سأترك؟ وهل هناك من يحب مشاركتي عبق تلكم الأيام التي كانت فيها الحمراء كالغادة الحسناء تبدي مفاتنها تنفث عطرها مزهوة دلالا ، تحسدها حسنوات المدن والبلدان على اختيار زينتها
والألوان.
هل أنسى أيام سوق الحلقة التي يستعد فيها سوق الحمراء لإستقبال أيام العيد المباركة بكل ما لذَّ وطاب وما غلا ثمنه من طعام وثياب. هل سأنسى حرص البايع والمشتري على إظهار بهجتهم بالمعروضات والمقتنيات النادرة العائد بها بعض المسافرين الذين رأوا الاستفادة من قيمتها
هل سأنسى ذلك الاستقبال الحافل الذي يتلقاه الإباء والأجداد في العرصة الخارجية للسوق وهم في طريقهم إلى الداخل وحرصهم على مصافحة كل فرد في اصطفاف لا يدرك مقامه وهيبته إلاَّ من عاش تلك اللحظات .
هل يمكن أن أنسى تلك الروايح الزكية التي تتلقى الداخل من الباب الكبير للسوق أو ذلك الترحيب الكبير من أصحاب الدكاكين الذين يعدون فراشا خاصا على المصطبات أمام دَكاكينهم ويُفرغونها للجلوس في أوقات المناداة تقديرا وإجلالا منهم للشيوخ ، عليهم جميعا رحمات رب العالمين.
كيف أنسى صيحة كبير السوق وهو يعلن للجميع عن بدء دخول الأبقار المعدة للذبح لعامة الناس ليطلع عليها الجميع أنها في حالة صحية جيدة وعلى رأسهم شيخ البلاد وأبناء عمومته وأعيان البلاد قطعا للذرايع والشبهات فيكون ذلك الإجراء بمثابة تصريح للذبح ، يلي ذلك الاستئذان ببدء المناداة على الضأن والماعز ، فيما يغادر آباؤنا ليفسحوا لأصحاب الدكاكين فتح دكاكينهم إشعارا بانتهاء الحفل الرسمي لسوق الحلقة.
لتبدء بعد وقت قصير الأغنام بالخروج من السوق يقودها مشتروها في سكك حارة الحمراء ولا يكاد الواحد منهم يمشي أمتارا إلاَّ ويقابله من يسأله عن ثمن دابته فيجيب المبتاع (جزم) فيقوم السائل بتحسس الدابة ليقول له اخذتَها بكذا فيجيبه (ما وقبت) استوجبتها بكذا.
أريحية في النفوس قلما نجدها اليوم بل قد يجيب صاحب الدابة بعبارة ( مويخصك) ناهيك عن أن يسمح له بتحسس دابته .
وهكذا نرى كيف أن حمراء العبريين تميزت بتنظيم ومَراسم في كل مناحي الحياة تشهد لها أنها كانت إمارة حقيقية وأنَّ شموخ بيوتها جاء من شموخ أبنائها فالهمم العالية رفعت القصور العالية .
ولنا مقال آخر عن جانب تنظيمي آخر … إنتظروه قريبا
أحدث التعليقات