الشيخ عبدالله بن حمدون بن حميد الحارثي، كيف بدأت معرفتي به؟
في أواخر السبعينات من القرن الماضي كنت بصحبة العم الكبير الشيخ أبي المحسن زهران بن محمد بن سالم العبري
وقد أخذنا معه للسلام على الأمير الراحل الشيخ أحمد بن محمد بن عيسى الحارثي في مدينة الأعلام بمسقط و كان ذلك أول لقاء لي بالشيخ عبدالله بن حمدون بن حميد الحارثي رحمة الله عليهم جميعا.
كنا في وفد الزيارة أكثر من أربعة منهم ابن العم محسن زهران بن محمد العبري
ولا أزال أذكر ملامح الشخوص رغم مرور ما يقارب خمسين عاماً.
قبلها كنت أسمع بين فترة وأخرى شيئا من الإطراء في حق الشيخ ابن حمدون كونه قد ارتبط بخاله الأمير في فترة بداية عهد جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه ، تلك الفترة التي رأيت عدم الخوض فيها فليس هنا مكان الحديث عنها ، بل الهدف هنا فقط إبراز بدء معرفة الكاتب بالشيخ ابن حمدون عبدالله .
كان سني يومها ٢٤ عاما وسن الشيخ عبدالله ربما يقارب أربعين او أقل..
أعجبت كثيرا بشخصيته وثمنت عاليا أن يبقى مع خاله الأمير في ظل عدم معرفته بالمصير من حيث الزمان والمكان وأكبرت فيه ذلك الشموخ والشمم ، وقلت في نفسي قليلون من يتحلون بتلك الصفات من البر والاخلاص وقدرة التحمل ، فكان ذلك الشعور هو انطلاقة أول دافع لي لمعرفة الشيخ عبدالله بن حمدون رحمة الله عليه.
وقد توالت بعد ذلك رؤيتي للشيخ دون تواصل لعدم وجود أسباب مباشرة
إلا حين توظفت في وزارة الداخلية فيما بعد وكانت الصدف تلعب دورها لمصافحته في المناسبات الرسمية ، ولم يكن بيني وبينه إلا شعوري بالاحترام له اتجاه تلك الصفات العالقة في ذهني.
وتشاء الأقدار أن تكون ولايات المضيبي (نيابة سمد الشان) و دماء والطائيين (نيابة دماء ) محطتي عملي وتتقارب مناسبات اللقاء ، وكنت أرى التقدير الكبير الذي يحظى به الشيخ عبدالله مما جعلني أزداد ثقة بنظرتي المترسخة في أعماق نفسي وكأن مفناطيسا يشدني إلى التقرب منه والتعرف عليه لتأتي اللحظة الفارقة بين ما كنت أعرفه وما لا أعرفه ، حين تم تعييني عاملا للحكومة في ولاية القابل بين هلالين (واليا) وقد كان ذلك في صيف عام الفين للميلاد.
لم أكن بالتأكيد مجهولا بالنسبة للشيخ عبدالله فلا شك أنه كان يسأل عني ويسمع عن غصن أنه نائب والي ، ونلتقي أما كاتب المقال فقد كان الشيخ بالنسبة له كنزا مغلقاً بمفاتيح يمكن تشبيهها بالبصمة ، ولكن حتى البصمة يمكن الوصول إليها مع الصبر والتأني وإثبات الثقة .
حللتُ ولاية القابل متهيباً ومن ذا الذي لا يتهيب من عرين الأسود ، وأخذت أتلمس طريقي لا إلى ملفات العمل الإداري بل إلى قلوب وعقول أولائك الرجال الذين رماني القدر في أحضانهم
وكان علي أن أكسب ودهم جميعا دون استثناء وإعطاء كل ذي حق حقه من التقدير والتبجيل والاحترام بلا إقصاء أو تفريط.
وأخذت عجلة الزمن والعمل تدور وأصبحت نوعا ما أدرك المداخل والمخارج فكانت فترة القابل هي فترة الدراسة الأكاديمية التي تعلمت فيها الكثير الكثير فكنت بينهم كمن يتنقل من قاعة محاضرة لقاعة أخرى والفصول تتوالى ، ولا شك أن هناك فوارق بين أستاذ وآخر وقدرات الأساتذة على إدخال المعلومة لدى الطالب تتفاوت ، ولكن الحق يقال أنني مدين بالفضل للحكومة الرشيدة أن منحتني فرصة التعلم في جامعة القابل ومدين أكثر لمن منحوني محبتهم وعطفهم في الولاية.
لقد أشرت إلى أن انتقالي إلى ولاية القابل كانت فرصتي الثمينة لكسب الثقة والمودة من قبل الشيخ عبدالله ولكن أي معرفة تريد من محيط وأنت لا تجيد السباحة على الشاطئ ، وإن سولت لك نفسك التعمق ، هل تأمن أن لا تأتيك موجة تنسفك أنت وقاربك الذي تجدفه؟
كانت زيارته الأولى لمكتب الوالي زيارة أحسست فيها أنه يسبر غوري وهو لا يعلم ما أكنه لشخصه من إعجاب منذ سنوات ، تحدثنا حديثا عاما ورحب بي ترحيبا أشعرني فيه بالإطمئنان كسر عندي حاجز خوف الكارزما التي يتمتع بها وكاتب المقال المتهيب كان كمن يمشي على شوك إلى أن هدأت عنده نبضات الضغط المرتفع .
وكما هو حال الناس في كل زمان ومكان لا يخلو المرء من قيل وقال فقد جاءني
أناس وقالوا أن فلان سيأتي إليك كثيرا
وأنه سيأخذ وقتك ووقت المراجعين وأنه وأنه .وكانت إجابتي أنني معني بالفائدة مما يقوله ولا ألتفت الى ما لا يفيد ، وسوف يرى ذلك هو وغيره مني.
وتكررت الزيارات وكنت أنا الذي أتمنى لو أنه يمكث لأزداد منه مما تفيض به عبقريته ، حتى صرت أحرص على الاتصال به وازوره في منزله فكانت الخمس السنوات في ولاية القابل سنوات الدراسة وأخذ العبر ، وظلت العلاقة بعد ذلك تقوى وتزداد لابتعادها عن تشنج العمل الرسمي وأصبح من يعرفني من أهالي الولاية يتعجب من ترددي على الغلاجي وبعضهم يسأل الشيخ بلهجة من مثل ( ما هو هذا الريال اللي كان والي معنا؟) فيبتسم الشيخ عبدالله ويقول هو هو.
لم أكن أرتوي من زيارة حتى أعود بإلحاح منه وكان يخترع المناسبات المؤدية لزيارته ، فتارة يقول زملاؤك الولاة يسألون عنك وتارة أخرى يدعو بأناس للزيارة فيدعوني فأشعر أن تلك الحفاوة كنت المقصود بها ، وأذكر مرة أنه اتصل بي أنه يريد مني أن أفصل نزاع بين اثنين فوعدته وحينما أتيت لم أجد أحدا في حالة خلاف فسألته أين المتخالفان قال هذا المجلس والمجلس الذي حللته في الزيارة سابقة وقد انتهى خصامهما بتحقيق الزيارة ، فقلت في ذلك يومها الأبيات التالية بعنوان التنازع الجميل:
مجـالس عبدالله أضحت تَنازعُ
فذلـك جـذلان وذلـك جـازعُ
كأن ابن حمدون ينافس بينهـا
فهـذا به ضيف وذلـك طالـعُ
فيعطي لذا يوما و يوما لآخـر
فلا ذاك مرضيـا ولا هذا قانـعُ
فهل لأبي شاذان خطة دمجهـا
لينهي الذي ما بينها فهـو بارعُ
على أنَّ بي شـكا يقـول بأنَّه
يحبذ أن يبقى عليهـا الـتدافعُ
حفيد حميد قد طلبت تنازعـا
ولم تطلب الصلح الذي أنا طامعُ
فقد زرت هذا مرة بعـد مرةٍ
كما أنني في المجلس الثاني قابعُ
ولست أرى منها مجال تصالح
فأنت الذي تذكي وأنت المنازعُ
عدوك مال قد أتى مســتقره
فتعفو ولا تعفو وان جاء شـافعُ
ألا حبـذا هـذا التنـازع منهما
و يا حبذا هذا الـذي أنت صانعُ
ذلك كان ديدنه في الكرم
وأما في فن التواصل فإنني لم أجد أحدا على الإطلاق كالشيخ عبدالله بن حمدون فعلى مدى عشرين عاما منذ غادرت ولاية القابل ظل متواصلا يكاد يكون أسبوعيا ونستثني من ذلك الأيام التي يكون فيها خارج السلطنة .
وحين اندلعت حرب غزة بعد السابع من أكتوبر صار الشيخ عبدالله يتابع ويحلل ويبتهل بل ويرفع من عزائمنا متفائلا بالنصر. متأثرا من الموقف العربي المتخاذل اتجاه نصرة المجاهدين في غزة وفلسطين .
فأيُّ زمان هذا الذي أخرج مثل ذلك الرجل وأي تربية تلك التي خرجَّتْ مثل هذه الصفات؟
رحلة من العلاقة الطويلة لم أكن أتخيل أنها في لحظة تصبح من الماضي وأن صاحب الفضل فيها سيرحل عنا بكل هدوء وسكينة وحين تلقيت خبر الوفاة شككت في ذلك من حيث لم أشعر لهول الصدمة وقد قلت :
أصدق ما قد قيل أو لم أصدقه
هو القدر المحتوم بأن تحققه
مضى ابن حمدون وياليته لنا
أتاح لقاء قبل أنْ لا نفارقه
على أن داعي الحق لا ينتظر لكي
يرى ذا حبيبا أو صديقا يصادقه
وإن لعبدالله في القلب موضعا
عزيز علينا أن نراه يفارقه
متمنيا لو كانت أتيحت لي فرصة اللقاء
قبيل رحيله قائلا:
ألا ليت لي عند ابن حمدون لحظة
أودعه فيها وأفشي له سري
بأني له أحببت حبي لوالدي
وأكتم ذا عنه لكي لا به يدري
مستلهما من الشعر عونا في تخفيف ثقل الحزن بقصيدة أورد منها هنا كخاتمة لحديثي عن مسيرة العلاقة المتميزة قلت فيها
يا ابن حمدون كيف للشعر ألاًّ
يحزن اليوم ؟ كيف للأدباء؟
كيف للغرب لا يبادل شرقا
والشمالَ الجنوبُ وابنُ السماء
إنَّ هذا لحق وأنت جديرٌ
بالذي جاء من إحتفاء
فلكم في الحياة سفر جميل
مشرق مبرق كصفحة ماء
سوف يبقى على الدوام معينا
ناصع الفكر دافعا للإباء
مرتجين الإله في أن تكونوا
في نعيم مقيم من الإصطفاء
فإنَّهُ للكرام جِدُّ كريمٍ
ولقد عرفناك أكرم الكرماء
رحمك الله أيها الشيخ الكريم و
أسكنك الجنة وغفرلك واثابك ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. والحمد لله رب العالمين.
غصن بن هلال بن محمد العبري
مسقط
١١ / ٩ / ٢٠٢٥م
أحدث التعليقات