في جلسة مع بعض الفتيات من العائلة جرى الحديث عن العمة شيخوه بنت محمد وبما كانت تتميز به عن بنات جيلها مما أهلها أن تحظى بمكانة وسمعة ، وتمنين أن يكتب عنها بعضا من سيرة حياتها فقلت
****
هي كماذكر شيخوه بنت محمد بن سالم بن بدر بن محمد بن زهران بن محمد بن إبراهيم بن راشد العبرية
ولدت في مدينة العراقي بولاية عبري ، وهي واحدة من سبعة إخوة ثلاثة منهم رجال هم عمي زهران و عمي عبدالله ووالدي هلال وهي رابع أخواتها عائشة وعزة ورياء
جميعهم خلصاء والدتهم جدتنا نصراء بنت مانع بن أحمد العبرية
كانت إمرأة مربوعة القامة كريمة العين (فقدت عينها بسبب عود من الفرصاد) حال تسلقها لشجرته ، وجهها كالبدر حال اكتماله .
شخصيتها مزيج بين الرقة والخشونة والأكثر ميلا في تعاملها الى الأخيرة.
تمتلك من الصفات ما لو كانت في هذا الزمان لصارت مضرب المثل.
شخصية مستقلة قراراتها نافذة بقوة إرادتها و صلابة مواقفها.
لها منهجها الخاص في الحياة يمكن أن توصف بالمرأة الحديدية، تفرض احترامها .
ومن اعتدادها بنفسها وباسمها أنَّ مشرف الاوقاف حضر الى المكان الذي تدَّرس فيه وبرفقته موظف من وزارة الاوقاف
لتعبئة استمارة فسمعت المشرف يخبر الموظف باسمها فلما قال اسم المعلمة شيخه قالت على الفور اسمي شيخوه ما شيخه
وكان المشرف قد استحيا ان يذكر اسم شيخوه لكنها اعترضت وقالت اسمي شيخوه لان ابي سماني باسم احدى بنات جدنا محمد بن زهران.
****
عملت منذ صغرها على الاعتماد على النفس بما يتيسر في ذلك الزمان من سعي لتؤمن لنفسها احتياجاتها .
وربما تكون هي أول من عُني بتحسين الخط بين بنات جنسها في الاسرة وكانت لها مراسلات بين العراقي والحمراء فقد كانت الوالدة شمساء بنت عبد الرحمن الخروصية أم عبد الرحمن بن الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري
ترسل رسائل والعمة شيخوه ترد عليها من العراقي والعكس
****
فتحت مدرسة في بيت الغنيمة
وقرأ على يديها القرآن ثلاثة أجيال ، منهم كاتب السطور وما زلت أذكر أول يوم دراسي نزل عليَّ فجأة دون سابق إخطار.
فقد كنت موكلا بإحضار قهوة الى المدرسة عند الساعة العاشرة صباحا وبعد الانتهاء من القهوة اقوم بإعادة صحن السح ومدلاة القهوة وكنت أجد في ذلك متعة غير عادية فأنا أستمع بعض قصار السور من التلاميذ
وأحفظها من غير إلزام ، وفي يوم من الايام قَرَّرَتْ فجأة أن أبقى في المدرسة الى نهاية وقت الدراسة وأخبرتني بضرورة حضوري في صباح الباكر .
حاولت التنصل بطلب مهلة أحضر فيها ولكن من يسمعني
فما دامت شيخوه قررت عليك الانصياع .
ومن شدتها كذلك رحمة الله عليها حادثة أخذت فيها درسا لن أنساه.
أخذني عمي زهران معه الى بيت الأدماني الغربي حيث تتم قمسة تركة العم ناصر بن سالم بن بدر
ولم يستأذنها هو ولقد اعتبرت أنا أن عمي الأكبر ويملك قرار أخذي معه، ولكن في اليوم التالي كان المقشاع جاهز للأدب ، وهذه الحادثة أعزيها الى سبب آخر ليس هنا محل ذكره ، وإنما اوردتها هنا للدلالة فقط على حزمها.
وفي مقابل تلك الشدة كانت رحمها الله تحرص على أخذ التلاميذ للوادي أيام الخصب لقضاء يوم ممتع وتختار يوم الخميس لانه نهاية الاسبوع الدراسي وهناك تتم قراءة الأشعار .
****
إدخال مكينة الخياطة كأول مكينة أسرية
فمع ظهور أول مكائن الخياطة
كانت هي السبَّاقة في شراء مكينة خياطة بسعر خيالي مقارنة باثمان تلك المكائن في العهد الحاضر ، فقد كان يمكنها مثلا بذلك الثمن شراء قطعة ارض زراعية ، وإنني أذكر يوم أن وصلت تلك المكينة وبدأت تستخدمها كسرت أكثر من عشر إبر لعدم معرفتها بالقياس الأمثل لغرزة الإبرة.
لقد كان لدخول ميكنة الخياطة فتحا كبيرا وبعد عام او أقل بدأت تتزايد مكائن الخياطة في الحمراء وصارت مصدر دخل لبعض الاشخاص لكن أسعارها
ظلت مرتفعة وإن بنسبة أقل
مما حال دون اقتنائها من معدومي النقد.
****
ومما يدلل على كياستها وتقانتها وحصافتها في إدارة الشؤون المالية أنها تمكنت من شراء عقد من الذهب بمبلغ مائة وثمانين قرش فرنس (عملة نمساوية من الفضة درج العمانيون على تسميتها بالقرش الفرنسي) في الوقت الذي كان فيه للقرش قوة كبيرة.
وفي أوائل عهد النهضة المباركة لجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه كانت أول من سارع الى طلب تثبيتها في وظيفة مدرسة قرآن وظلت كذلك الى ان أخذ الكبر مأخذه منها وخلال تلك الفترة اشترت أراضي وأنشأت بيتين أوقفت أحدهما وخلفت الآخر للورثة من بعدها.
****
تلكم كانت بعض ملامح شخصيتها الاقتصادية.
ولم تكن عن مجال السياسة ببعيدة فقد كان لها آراء ومواقف
مع أسرتها إبان كانت الاسرة في العراقي ثم بعد العودة إلى الحمراء وكانت تزرع القوة والشكيمة في نفوس أبناء إخوتها وتسرد لهم قصص أجدادهم العظام وأن عليهم أن يسيروا على نهجم.
وأذكر أنه حين كان عمري لا يزيد على ثلاثة عشر عاما أعطتني قطاعة محزم فارغة
وقالت لي إذهب الى عمك عبدالله بن مهنا وقل له يعطيك (زانة) طلقات نارية تتزين بها في العيد .
فذهبت اليه – رحمهم الله جميعا – بين الظهر والعصر وهي التي حددت لي الوقت وأين سأجده
وجدته في السبلة العلوية الغربية من بيته و قد هالني منظر القروش في رفوف السبلة
وعرفت بعدها أنها مقسمة من خمسة قروش الى ثلاثين قرش
يتم انفاقها على من له عادة العطاء.
وبالفعل وجدته حيث قالت لي
فأخبرته بطلبي ، فقال لي مازلت صغيرا على حمل السلاح قلت له أحمله في العيد.
وقد أعطاني عشرين طلقة بينما القطاعةبها ثلاثين بيت .
ولم يشأ أن يفوت فرصة معرفة من دفعني الى هذا الطلب فأخبرته أنها عمتي شيخوه ، فقال أعرف ما أحد غيرها أيسوي كذاك .
وحينما وصلت البيت ورأت الأماكن الفارغة كادت أن تضربني وقالت ارجع اليه يعطيك عشر رميات( طلقات)
وقد كان ذلك وتوشحت بالمحزم
في العيد.
ومن مواقفها أنها قالت أنه لا يحل المشكلة بين الكويت والعراق أثناء غزو العراقي للكويت غير السلطان قابوس وكأنها كانت تعلم بالجهد الكبير الذي يبذله جلالته لإيقاف الحرب قبل وقوعها وإن لم يوفق.
****
تفاعلها مع معطيات عهد النهضة
كانت رحمها الله تحرص سنويا
على متابعة الجولات السامية
لجلالة السلطان وكانت تحرص على كتابة الانجازات المتلاحقة
فيما يشبه الأراجيز ولعل الكثير منها لم يجد العناية والمحافظة عليه.
وكانت تحرص على الصلات الاجتماعية ولا سيما الأسرية فكانت لها زيارات سنوية تبتدي من العراقي ثم الى البريمي وساحل الباطنة الى أن تصل مسقط وإن كان أحد من أبناء إخوتها في أي من مناطق السلطنة تذهب إليه وتعطيه حقه من الزيارة وخير دليل على ذلك أنها حين أصيبت بالجلطة كانت في زيارة لابن أخيها سعيد بن زهران في بلدة العراقي وحين نقلت من المستشفى بقيت فترة ليست قصيرة في منزله بالخضراء
ولما أن طال بها المرض اشتاقت للرجوع الى الحمراء.
وقد قلت هذه الابيات بعد أن غادرت العراقي
معلمتي
معلـمتي إني قـد اشـتقت فأرسـلي
إلى خيالا عـلَّ ذا الشوق ينطفي
معلـمتي فـي الأيـك غنت حمامـة أباحت بنا سرا وقد كان بي خفي
معلـمتي إن اللقـاء كـان سـلوتي
بمن بعد هذا اليوم يا عـمَّ نحتفي
معلـمتي -شـيخوه- إن مسـيركـم
أصاب سـويدا القلب يا عم فارأفي
أعيـدي إلينـا بسـمة قـد رسمتهـا أعيدي لنا عرفـا كما كنت تعرفي
لقـد زانت الخضرا بقربك خضـرة على بيتها -يا عمَّ – كان تطوفي
أقبـل ركـن الشرق منـه و حيثمـا تربعت سعيي -عمتي – و توقفي
هـل الحـج إلا طـاعـة الله إننـي
أطيع الهي فيك -يا عمَّ -أصطفي
ألسـت التي قـد قلتهـا لي حكمـة غصيني إن تعـرف إلهك تعـرف
الهـي إني قـد عـرفـتـك سـيدي عرفتك لكني أسـأت تصـرفـي
فهـل يا إلهي إن دعـوتك تسـتجب دعائي على ما قد جرى من تخلفي
الهـي جـد لي أن أرى عمتي و قـد تعافت على ما تشتكي من تكلـف
الهـي إني لسـت أسـألك القضـاء
فهل إن سألت اللطف يا رب تلطف
****
بقي أن نشير إلى استقلاليتها أنها حرصت على العيش هي واختها عائشة في بيت مستقل ، ولم تقبل الالتحاق بأي من أبناء اخوتها إلا بعد أن ساءت حالتها الصحية وبعد وفاة شقيقتها عائشة
فانتقلت الى منزل إبن أخيها محسن بن زهران إلى أن وافتها المنية بعد طول معاناة نتيجة إصابتها بالجلطة التي ورد ذكرها ،
فكانت وفاتها يوم
٢٧ محرم ١٤٢٨ الموافق ١٥ فبراير ٢٠٠٧م
تغمدها الله بواسع رحمته وأسكنها فسيح جناته.
وقبل أن نأتي على نهاية هذه الكلمة لا بد من ذكر العمة عائشة فقد ارتبط ذكرهما معا فلا تذكر شيخوه ألا وقبله يأتي اسم عائشة فأذا زارهما أحد قال زرنا عائشة وشيخوه واذا لقيهما أحد قال لقينا عائشة وشيخوه فهي أكبر أخواتها سِنَّاً إلا أن اختلافا كبيرا بينهما ، فبينما شيخوه كانت أكثر اهتماما بتنمية مواردها كانت عائشةغير معنية بذلك على الإطلاق بل كان الذي في يدها ليس لها ولا يعني ذلك أن شيخوه كانت بخيلة ، كذلك العمة عائشة لا تكاد تسمع حين تتكلم وكانت تكره أن يسمع صوتها لدى مضغ الطعام وتلك هي قمة ما يسمى في عصرنا الحاضر (الإتكيت )، كانت من اللطف بحيث تحتاج أن تبحث عنها في المكان ولا أذكر أني رأيتها يوما متجهمة ، كانت صبوحة الوجه طاهرة الاردان تعطف على الصغار ولا ترد لهم طلبا وكم مرة رأيت الصغار أمامها يأخذون عطاياهم ثم يعودون اليها فتعطيهم وكأنها لا تعرف أنهم قد أعطوا .
وخاتمة القول أن عائشة وشيخوه شخصيتان مختلفتا الطبع باجتماعهما امتزجتا فصرن مكملات لبعضهما فإدارة البيت محتاجة لصرامة شيخوه
وهدوء العيش واطمئنانه يحتاج لهدوء عائشة ورقتها.
رحمة الله تغشاهما ومن سبقهما ولحقهما من الآباء والأجداد.
نقطة استدراك
لعله من المناسب ونحن نتحدث عن طموحهاو سبقها أنها كذلك
لديها بعض المعارف الروحانية
وإن لم تكن ترغب في إشهارها
ألا فيما ينفع ولا يلحق ضررا
كرقية اللدغ والحورة فهاتان قد مارستهما كثيراً لحاجة الناس اليهما في ذلك الزمان.
جزاك الله خيرا على توثيق هذه السيرة الزكية، رحمهما الله رحمة واسعة، وقد كانت تحرص على الخروج بالصغار منا إلى صلاة الاستسقاء دون الكبار عندما اشتد المحل بالحمراء في أواخر الثمانينات وأواءل التسعينات، وأذكر أنها كانت تجهش ويرتفع صوتها بالبكاء عندما ترفع الدعاء بالاستسقاء.